كيف يمكن لتلاوة القرآن أن تعمل على تهذيب سلوك المؤمن؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

كيف يمكن لتلاوة القرآن أن تعمل على تهذيب سلوك المؤمن؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لا يخفى ما للقرآن من أثر ظاهرٍ وباطنٍ على قارئه وسامعه على حد سواء، وهذا التأثير يختلف باختلاف موضوع الآية، ونوع الاستعداد الذي يتحقق في القارئ أو السامع؛ فهذه آية نقرأها نَذرِفُ بسببها الدموع، وأخرى تَوجَل منها القلوب، وأخرى تقشعرُّ منها الجلود؛ مصداق قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ‌كِتَابًا ‌مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]

ومصداق قوله سبحانه: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ‌لَرَأَيْتَهُ ‌خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21] فالجبل في غلظته وقسوته، لو فهم هذا القرآن؛ لخشع وتصدّع من خوف الله عز وجل، فكيف أثره في البشر لو فهموه وأحسنوا استقبال رسائله؟!

وهاك أخي السائل بعض ما يُرشدك لتلقي رسائل القرآن مما ينعكس حُسنَ سلوك في حياتك:

– تعظيم كلام الباري سبحانه؛ بأن تستشعر أنك المقصود بالخطاب في كل آية تقرأها أو تسمعها؛ فإن كانت آمرة بادرت لفعل المأمور فيها، وإن كانت ناهية أسرعت لاجتناب المحظور فيها؛ فهكذا كان حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌لَا ‌تَرْفَعُوا ‌أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2] جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: ” يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ أَشْتَكَى؟ ” فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ شَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ”. (1)

– جَمْعُ القلبِ عند تلاوة القرآن أو سماعه، وإفراغُه من الشواغل التي تَحُول دون تأثره بما يقرأ، أو يسمع، وهذا توجيه رباني؛ قال تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌فِي ‌ذَلِكَ ‌لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]

– المداومة على قراءة القرآن وعدم هجر تلاوته؛ فمن أَدَامَ قَرْعَ الباب فُتح له، وكثرة قرع القرآن للقلب يوشك أن ينفتح لها القلب وتظهر فيه آثاره؛ لهذا يفضَّلُ الجهرُ بتلاوة القرآن؛ فإنه يساعد على يقظة القلب، ومِن ثمَّ التأثر بالقرآن، بخلاف القراءة السرِّية فإنها مَظِنّة شرود الذِّهن وانصراف القلب؛ ولقد سُئل ابن عباس رضى الله عنهما عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، فقال: كان يقرأ في حجرته، فيَسْمعُ قراءتَهُ مَن كان خارجاً”. (2)

– تدبُّر القرآن وفهم الغامض من معانيه؛ بالرجوع إلى كتب التفسير الميسرة المختصرة التي تعطي المعنى العام للآية؛ وهو توجيه رباني، قال الله فيه: ﴿‌كِتَابٌ ‌أَنْزَلْنَاهُ ‌إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]

– القرآن مكوّن مِن مَبانٍ ومَعانٍ، والمباني وسيلةٌ لفهم المعاني؛ لذلك ما ينبغي الانشغال التام بمباني القرآن عن معانيه، فلا يجوز الانشغال بتطبيق أحكام التجويد مثلاً، أو الأحكام اللغوية للآيات، بطريقة لا تَتْرُكُ لنفسِك أثناء القراءة مساحةً ولو صغيرة للتدبّر والفهم.

– قراءة القرآن في قيام الليل والناس نيام؛ فالليل له أثره الكبير في حضور القلب، وتأثره بالقرآن؛ مصداق قول الباري سبحانه: ﴿‌يَا أَيُّهَا ‌الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 1-6] ناشئةُ الليل هي: ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات. والمقصود أن قيام الليل هو أشدّ ‌مواطأةً ‌بين ‌القلب ‌واللسان، ‌وأجمعُ ‌على ‌التلاوة؛ ولهذا قال: {هي أشد وطئا وأقوم قيلا} أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهُّمِها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش. (3)

– أن تتيقن أن هذا الكتاب الذي تقرأه فيه موعظتك، وفيه سعادتك، نزل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ مصداق قوله تعالى: ﴿الر ‌كِتَابٌ ‌أَنْزَلْنَاهُ ‌إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1] وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا ‌فِيهِ ‌ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: 10]

وأخيراً:

إنّ انعكاس القرآن في تهذيب سلوك المسلم وأخلاقه، من أعظم الثمرات المرجوّة من التلاوة، فبعد فهم القرآن وتدبره يأتي التخلُّق بأخلاقه والاهتداء بهديه، حتى يصير حال المؤمن كحال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سأل ‌سَعْدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، فقال: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ ‌خُلُقَ ‌نَبِيِّ ‌اللهِ ‌صَلَّى ‌اللهُ ‌عَلَيْهِ ‌وَسَلَّمَ ‌كَانَ ‌الْقُرْآنَ”. (4)

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): صحيح مسلم (119).
(2): شعب الإيمان للبيهقي (1944).
(3): ينظر: تفسير ابن كثير (8/252).
(4): صحيح مسلم (746).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.