كيف يمكنني الثبات والاستقامة على الحق في ظل تحديات العصر؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

كيف يمكنني الثبات والاستقامة على الحق في ظل تحديات العصر؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

الاستقامة تعني سلوك الصراط المستقيم ، واتّباع تعاليم الدّين الحنيف دون ميل، وهي تتعلق بسلوك الإنسان ظاهره وباطنه، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والمداومة على ذلك حتى الممات.

الاستقامة ‌على ‌الحق هي أُسِّ الواجبات، ورُكن المعاملات، وهي كلمة آخذةٌ بمجامع الدّين كلِّه، ومعناها: القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصّدق والوفاء بالعهد، تتعلّق بالأقوال والأفعال والنّيّات والاستقامة فيها، ووقوعها لله وبالله وعلى أمر الله تبارك وتعالى.

 يقول الله تبارك وتعالى عنها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ‌ثُمَّ ‌اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]

ويقول: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي ‌مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]

أما كيف تبقى مستقيماً على الحق، فأسباب ذلك كثيرة، لكني سأختصرها لك بسبين اثنين هما: مراقبة الله تعالى، والصحبة الصالحة.

أما الصحبة الصالحة وأثرها في الاستقامة: فالصُّحبة الصَّالحة تعينك على الالتزام في طريق الاستقامة، فالصَّديق الصَّالح يكون بمثابة منبِّهٍ لصاحبه؛ فيُذكِّره بأعمال الخير ويدلُّه عليها باستمرار، كما يُساعد صديقه على أن يقوم بالطَّاعات على أتمِّ وجهٍ، ويُذكِّره بالجزاء والنَّعيم الذي أعدَّه الله تعالى لهم إن سلكوا هذا الطَّريق.

كما أن في لزوم الصحبة الصالحة استجابة لأمر الله تعالى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا ‌مَعَ ‌الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] وقد قالوا في حق الصحبة:

فاختر إلى الصحبة من أطاعا …. إن الطباع تسرق الطباعا

كما أن الصُّحبة الصَّالحة أن تُعطي صاحبها همَّةً ودافعاً قويَّين للتَّغيير نحو الأفضل، والاستقامة عليه؛ لأنَّ من خالط إنساناً سليم الطِّباع تعلَّم منه.

كما أن الصحبة الصالحة تغرس حبَّ الخير وحبَّ المنافسة؛ لأنَّ الإنسان بطبعه مجبولٌ على حبِّ المجاراة، فلا يرى أحداً خيراً منه إلَّا وأحبَّ أن يفعل كما فَعل، فمَن صاحَب مستقيمًا على مبدئه مستقيمًا في أخلاقه مستقيمًا في أفعاله مستقيماً في أحواله؛ استقام مثله؛ فتكون الصُّحبة الصَّالحة سبباً في الثبات على الحق. قال الشاعر عمر اليافي:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه… ففيه دليلٌ عنه بالطبع تهتدي
ولا بدع في وفق الطباع إذا اقتدت…. فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي
وإن تصطحب قوماً فصاحب خيارهم…. لتصبح في ثوب الكمالات مرتدي
وجانب قرين السوء يا صاح صحبةً…. ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

أما مراقبة الله تعالى وأثرها في الاستقامة: فمن راقب ربه وعلم أنه يراه يعلم سره ونجواه استقام في كل شؤون حياته، فالاستقامة ثمرة المراقبة. فإذا أراد شخص أن يعصيَ اللهَ تعالى بعيدًا عن أعينِ الناسِ، تجده ينظرُ إلى اليمين ليتأكدَ هل يراه أحد؟ ثم ينظر إلى الشِّمال ويتأكد، ثم ينظر عن أمامِه وعن خلفِه، وأحيانًا يتأكد من قفلِ الباب ليرتكبَ المعصية.. لكن! نسي أن يغلق الباب الذي ينظرُ اللهُ تعالى منه إليه؛ لأنه باب لا يغلق.

 والمراقبة هي علمُ القلبِ بقُربِ الربِّ كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]؛ لهذا كانت مرتبة الإحسان هي أرفع مراتب الدين وأركانه، والتي عرفها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّم بقوله: “أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك”. (1) فمقام المراقبة ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أي أن تكون عابداً لله على النحو الذي أمر اللهُ جل وعلا به وأمر به رسولُه ، فلتعلم أن الله جل وعلا مطلع عليك ، عالم بحالك ، يرى ويبصر ما تعمل وتقول ، يعلم ظاهر عملك وخفيّه ، يعلم خلجات صدرك ، ويعلم تحركات أركانك وجوارحك، مصداق قوله تعالى: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس61 ] .

ويقول سبحانه وتعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } [ النساء108 ] .فمن راقب ربه استقام في جميع أحواله.

وأخيراً:

الاستقامة هي الطريق السليم للنجاة، وهي الطريق الذي يجب على المرء أن يسير فيه ليصل إلى جهته، فلا قيمة للوصول إذا كان الشخص أعوج وطريقه مثله، والله تعالى لا يرضى عن العِوج، فديننا دين استقامة واعتدال وإحسان.

وتذكر أخي السائل أن: الاستقامة طريق الناجحين الناجين، فلا تنحرف، وأن طريق المجد يصل إليه من سار مستقيماً واثقاً، فكن مستقيماً من أجل ذاتك أولاً، فلا فائدة من الاعوجاج سوى الألم، وتذكر أن كل الناس تعرف الشخص المستقيم، من خطاه؛ لأنه يمشي واثقاً. فاللهم صراطًا مستقيمًا لا نضل بعده أبداً.

رزقني الله وإياك صحبةً صالحةً تعيننا على الاستقامة، وجعلني الله وإياك من أهل مراقبته وخشيته، وممن راقبوا ربهم فاستقاموا على أمره ونهيه…آمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): صحيح البخاري (50).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.