كيف يتعلم الإنسان الرفق؟

يجيب عن السؤال الشيخ الدكتور باسم حسين عيتانيي  

السؤال

كيف يتعلم الإنسان الرفق؟

الجواب

الرفق هو قيمة أخلاقية عالية، تظهر معالمه في الإنسان برقة القلب والعطف والرحمة، بلطف الأقوال والأفعال، بمراعاة الناس ومداراة الأصدقاء، بالتساهل في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها. فمن كان متصفاً في ذلك فهو هيِّن سهلٌ ليِّنٌ قريب إلى قلوب الناس محبوب لهم، لا يعنّف ولايتشدد ولايُغلِّظ في أقواله ولا في أفعاله.

ومن الضروري معرفة أمرين قبل تعلم كيفية الرفق:

1- الأمر الأول: قد تكون خصلة الرفق في بعض الناس جُبِلوا عليها، أي أودعها الله فيهم دون أيِّ جهد منهم، فترى مظاهر الرفق عليهم في كل تصرفاتهم، وهذا ما يسمى بالرفق الفِطري أو الطَّبعي. وفي العادة غالبية الناس يكتسبون الرفق اكتساباً، أي: ليس الرفق طبعاً لهم بل يجتهدون في التمثل بالرفق ويتدربون عليه حتى يصيروا رفقاء بالخلق. وهذا ما يسمى بالرفق الاكتسابي.

2- الأمر الثاني: من الضروري أن يكتشف الإنسان ذاته، ولايمكن معرفة الذات إلا بمراقبتها والتأمل فيها ومعرفة ثغراتها وعيوبها، فينظر المرء فإذا وجد نفسه رفيقاً فليحمد الله تعالى، ولكن ينقصه معرفة جوهره وحدود الرفق وتقنياته من خلال المنبعين القرآني والنبوي حتى ترتقي هذه الخصلة ارتقاء صحيحاً في فضاء القيم الأخلاقية العالية.

 وأما من تأمل نفسَه فوجدها بعيدة عن الرفق، فوجد فيها غلظة في الكلام وشدة في التعامل وصعوبة في التفاهم وصلابة تكسر خواطر الخلق وقساوة تجرح قلوبهم، فهذا عليه أن يخطو خطوات نظرية وخطوات عملية حتى يخرج من وحل العنف والشدة والقساوة إلى صفاء اللين والرفق.

وهناك خطوات كثيرة أكتفي بوضع أربع خطوات مقتضبة حتى يحاول الإنسان أن يتقن فَنَّ الرفق وحتى يعلم الكيفية كي يطبقها بدقة فيشعر بسريان هذا الخُلق في كيانه:

1- الخطوة الأولى: التفكر بأن الله جلّ وعلا من أسمائه الحسنى “الرفيق” فيتأمل العبد رفق الله ولطفه في هذا الكون فيزداد عمقاً في إيمانه ويذق لذة اليقين، فيروض نفسه حتى يكون رفيقاً ليتخلق بهذا الخلق، فإذا صرت رفيقاً أحبك الله، وتصوّرأنك دخلت في محبوبية الله تعالى، وانظر إلى هذا المعنى الذي ذكرناه من محتوى النص النبوي: “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ.” [صحيح ابن حبان]

2- الخطوة الثانية: معرفة شخص الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأخلاقه، ومنها معرفة رفقه مع خلق الله تعالى، فهو يوصف بأنه كان رحيماً رفيقاً، فعن مَالِكِ بنِ الحُوَيرِثِ – رضي اللهُ عنه – قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ: ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» [صحيح البخاري]

 ومنها معرفة كيف كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتعامل بالرفق مع الناس؛

 وكيف كان يطبقه في تصرفاته القولية، فعن عائشة – رضي الله عنها: “أَنَّ يَهُودَ أَتَوا النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ” [ صحيح البخاري]

 وكيف كان يطبقه في تصرفاته الفعلية، فقد ورد أنه «قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِين”[صحيح البخاري] فهذا درس عملي للصحابة في كيفية التعامل بالرفق مع الناس.

فدراسة المواقف الأخلاقية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخاصة الرفق تدفعك من خلال حبك له بأن تتمثل بهذا الخلق، وأن تتحلى بهذه الفضيلة لتتمكن من الاقتداء بخير خلق الله تعالى على الإطلاق.

3- الخطوة الثالثة: التمعن في عود المصلحة والخيرية الدنيوية والأخروية للمؤمن عند تطبيق الرفق في حياته، فقد قال – عليه الصلاة والسلام -: “إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ” [ صحيح مسلم] فالرفق باب للخيرعظيم، فالنَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: “يَا عَائِشَةُ ارْفُقِي، فَإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْق” [ مسند أحمد]

وكل من اتصف بصفة الرفق من المؤمنين تحرم عليه النار وكفى هذا من مصلحة أخروية كبرى للعبد المؤمن، فقد ورد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “أَلَا أُخْبِرُكم بمَن يَحْرُمُ على النَّارِ، وبمَن تَحْرُمُ عليه النَّارُ؟ على كلِّ قريبٍ هيِّنٍ سهْلٍ.” [سنن الترمذي] فالعاقل عندما يستنتج هذه الخيرية لهذا الخُلُق يندفع لتطبيقه بكل ماأوتي من قوة معنوية حتى يستفيد من ثمرات الرفق.

4- الخطوة الرابعة: صحبة العلماء الصالحين الأصفياء الذين تَحَلَّوا بصفة الرفق، وكذا مرافقة الأصدقاء والأخوة الذين اتصفوا بذلك، فمن جالس جانس، فينظر في مواقفهم وتصرفاتهم التي تملأ المكان رفقاً وحناناً فيتأثر تأثراً قوياً يغير حاله إلى خلق إيجابي في سلوكه،  وقد ورد في الحديث الشريف عن التأثير بالصحبة : “إنّما مثلُ الجليسِ الصالحِ والجليسِ السوءِ كحاملِ المسكِ ونافخِ الكِيْرِ، فحاملُ المسكِ إمّا أنْ يُحذيَك، وإمّا أنْ تبتاعَ منه، وإمّا أنْ تجدَ منه ريحاً طيِّبة، ونافخُ الكيرِ إمّا أن يِحرِقَ ثيابَك، وإمّا أنْ تجدَ منه ريحاً خبيثةً” [صحيح مسلم] فالبيئة (كالأسرة مثلاً) التي تتعامل بالرفق مؤثرة جداً في أن يتعدى خلق الرفق إلى كل أفراد العائلة.

فاتباع هذه الخطوات تساعد في اكتساب هذا الخلق الشريف (الرفق) الذي سيرتسم في كل شؤون حياتك في معاملة  والدتك ووالدك وشيوخك وأساتذتك وطلابك وأهلك وأولادك، وأقربائك وإخوانك وأصدقائك، والصغار والكبار والعجائز، وفي معاملة الناس بل ستجد الرفق يسري في روحك حتى تعامل الحيوان بكل رفق، فيلازمك الرفق في كل مكان وزمان.

لاحرمنا الله من الرفق لأنه: “مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ” [صحيح مسلم] ونسأله أن يوفقنا إلى الاتصاف بهذا الخلق الجميل (الرفق) وأن يزينه في أقوالنا وأفعالنا وتصرفاتنا.

المصادر:

1- صحيح ابن حبان، دار ابن حزم ، بيروت، ط1، (1433 هـ – 2012 م) 489/1، ر: 722

2- صحيح البخاري، تحقيق البغا، دار ابن كثير، دمشق، ط5، (1414 هـ – 1993 م) 226/1، ر:602 – 2350/5، ر: 6038 – 98/1، ر:217

3- صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، (1374هـ – 1955م) 2004/4، ر:2594 – 2026/4، ر: 2628 – 2003/4، ر: 2592

4- مسند الإمام أحمد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة،بيروت، ط1، (1421 هـ – 2001م) 255/41، ر: 24734

5- سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، (1395هـ – 1975م) 654/4، ر:2488

[الشيخ] الدكتور باسم عيتاني

الشيخ الدكتور باسم عيتاني هو الشيخ الدكتور باسم حسين عيتاني من مواليد بيروت – لبنان عام 1965    

حاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 2005

من مشايخه: الشيخ محمد طه سكر والشيخ أديب الكلاس والشيخ ملا عبد العليم الزنكي والشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ عبد الرزاق الحلبي والشيخ د. مصطفى ديب البغا والشيخ د. وهبي الزحيلي ود. محمد الزحيلي وغيرهم رحمهم الله جميعا.

 لديه العديد من الخبرات والتخصصات العلمية و الإدارية، وقد شغل مناصب علمية وإدارية في العديد من الجهات والمؤسسات العلمية والثقافية والإسلامية الحكومية وغير الحكومية في لبنان وخارجه من ذلك

 SeekersGuidance – عضو في اللجنة العلمية في مؤسسة

 التعليم المفتوح عبر الإنترنت حتى الآن

– عميد كلية الدعوة الجامعية للدراسات الإسلامية – الدراسات العليا عام 2021-2020

مدير دار إقرأ للعلوم الإسلامية 1998- 2018

مدرس للعديد من المواد و المناهج العلمية في الفقه و الأصول و العقيدة و التفسير .. ومناقش و مشرف على العديد من الرسائل

والاطاريح العلمية في الماجستير والدكتوراه في العديد من الجامعات و الكليات في لبنان له مؤلفات وأبحاث  في مجال العلوم الإسلامية

أقوال الإمام زفر المعتمدة في المذهب الحنفي – الاجتهاد الجماعي سمو فكري في القرن 21 – العرف وأثره في الفقه الإسلامي 

المشاركة في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية داخل لبنان وخارجه