كيف يؤثر الاعتقاد باليوم الآخر في سلوك وأخلاق المسلم؟

 يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي

السؤال

كيف يؤثر الاعتقاد باليوم الآخر في سلوك وأخلاق المسلم؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه؛

من أهم آثار و ثمرات الإيمان باليوم الآخر أنه ينعكس بشكل مباشر على تقويم سلوك المسلم و أخلاقه، من خلال تقوية الرقابة الإلهية، و تنمية الوازع الديني، و تصحيح النوايا، و تحسين التعامل مع مجتمعه و محيطه؛ فالمؤمن الذي يعتقد بأنه سيقف يوم القيامة بين يدي الله تعالى؛ ليحاسبه على أعماله ويزنها بالميزان العادل ليعطيه جزاءها؛ إن خيراً فخير و إن شراً فشر؛ سيحسب الحساب لهذا اليوم؛ كي لا يقف وقفة الخزي والعار أمام الخلائق جميعاً في المحشر، وليفوز بجنة الله سبحانه وتعالى. كما جاءت بذلك الآيات و الأحاديث الكثيرة ،و الله أعلم

البيان و التفصيل :

مرَّ معنا في الإجابة عن سؤال سابق يتعلق بأهمية الإيمان باليوم الآخر، عدةُ أمورٍ ترتبط بالجواب كتعريف اليوم الآخر و حكم الإيمان به و ثمراته، فيمكن الرجوع إلى تلك الإجابة لتمام الفائدة .
و من أهم هذه الثمرات : تقويم سلوك المسلم و أخلاقه و حسن تعامله مع مجتمعه

و يكون ذلك عن طريق تقوية الرقابة الإلهية، أو ما يسمى: “الوازع الديني”، و تصحيح النوايا و محاسبة النفس.

– فالمؤمن الذي يعتقد بأنه سيقف يوم القيامة بين يدي الله تعالى؛ ليحاسبه على أعماله ويزنها بالميزان العادل ليعطيه جزاءها؛ إن خيراً فخير و إن شراً فشر؛ سيحسب الحساب لهذا اليوم كي لا يقف وقفة الخزي والعار أمام الخلائق جميعاً في المحشر، وليفوز بجنة الله سبحانه وتعالى. يقول الله عز و جل : ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾[الزلزلة 6-7-8]، و قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر 18]

– و قد بيّن لنا الله تعالى في كثيرٍ من آياته تأثيرَ الإيمان باليوم الآخر على سلوك الإنسان، و تزكية أعماله و أخلاقه، تارةً بالترغيب بما فيه من النعيم، و تارة بالترهيب مما فيه من العذاب الأليم.

– ففي سياق الترغيب مثلاً : جاءت هذه الآيات المتتالية من سورة آل عمران لتؤكد هذا المعنى؛ فقد قال الله تعالى -أولاً- مرغباً عباده المؤمنين المتقين بالجنة و المسارعة إليها : ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾، ثم ذكر -ثانياً- أوصافهم و أعمالهم فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، ثم ختم -ثالثاً- بذكر جزائهم و ما أعده لهم فقال : ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عران 133-136]
– فقد دفعهم إيمانهم باليوم الآخر و ما فيه من نعيم و أجرٍ عظيم إلى الإنفاق في كل الأحوال، و إلى كظم الغيظ و ضبط الأقوال و الأعمال و الانفعال، و إلى العفو عن الناس و الإحسان إليهم و الإفضال، و إلى الرجوع إلى الله و التوبة و الاستغفار ، و ترك الإصرار على الذنوب و الفواحش و سوء الفعال. فكان جزاؤهم المغفرةَ من ربهم و الخلودَ في جنات تجري من تحتها الأنهار.

– و في سياق الترهيب: جاءت هذه الآيات – مثلاً- من سورة الإنسان في ذكر عباد الله الذين : ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا  ﴾.
حيث فعلوا هذه الأعمال الصالحة خوفاً و طمعاً : خوفاً من شر ذلك اليوم؛ فقالوا: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾، و طمعاً برضوان الله و ثوابه؛ فأمَّنَهم مما خافوا منه، و أعطاهم ما طمعوا به؛ فقال : ﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا  ﴾.[الإنسان 7-11]

– و لهذا جاء الأمر -صراحةً في آخر آيةٍ نزلت من القرآن الكريم- باتقاء اليوم الآخر، و مراقبة الأقوال و الأفعال، و محاسبة النفس في الدنيا؛ استعداداً للحساب في ذلك اليوم؛ فقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة 281]

فكانت هذه الآية بمثابة البيان الختامي، و النتيجة النهائية الحاسمة، في بيان مسؤولية الإنسان عن أعماله، و ما قدمه في حياته.

و هذه المعاني كلُّها جاءت بها الأحاديث الشريفة أيضاً بما لا يحصى، و لكن سأذكر حديثاً واحداً واضحاً، في بيان أثر الإيمان باليوم الآخر ، على تقويم سلوك الإنسان المؤمن، في حياته و تعامله مع مجتمعه، فقد روى مسلم عن أبي هُريرةَ – رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «أتدرونَ مَنِ المُفْلِسُ؟» قالوا: المفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتَاع، فَقَالَ: «إنَّ المُفْلسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يأتي يَومَ القيامَةِ بِصَلَاةٍ وصِيامٍ وَزَكاةٍ، ويأتي وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهَذَا مِنْ حَسناتهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْل أَنْ يُقضى مَا عَلَيهِ، أُخِذَ منْ خَطَاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ»(1).

– وإذا استقرأنا حياة السلف الصالح من هذه الأمة؛ لوجدنا أن إيمانهم باليوم الآخر و خوفهم من عذاب الله وأملهم في جنته؛ هو الذي وجَّه حياتهم بكاملها.

و الشواهد على ذلك كثيرة جداً: فما صبرهم على إيذاء المشركين قبل الهجرة؛ و ما تخليهم عن ديارهم و أموالهم و هجرتهم بدينهم إلى المدينة؛ و ما دفاعهم عن دينهم و تضحيتهم بأنفسهم و أهليهم و أموالهم في سبيل الله؛ إلا إيماناً منهم باليوم الآخر، و بما أعده الله لهم فيه من النعيم، و هكذا حال التابعين و تابعيهم و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

و أخيراً سأختم بذكر هذا الحديث العظيم، الذي ربط فيه صلى الله عليه و سلم الإيمانَ باليوم الآخر بكثير من الأعمال، و هذا فيه أوضح دلالة على تأثير الإيمان باليوم الآخر على تقويم سلوك المؤمن و تزكية أخلاقه، و حسن تعامله مع مجتمعه.
فعن أَبي هريرة – رضي الله عنه- : أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». متفقٌ عَلَيْهِ
و في رواية: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَومِ الآخرِ، فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ»(2)

بناء على ما سبق :

 أقول لك أيها السائل الكريم : إن معرفتنا بثمرات الإيمان باليوم الآخر؛ ينبغي أن تدفعنا إلى زيادة الأعمال و الطاعات، و مجاهدة النفس في البعد عن المعاصي و المنكرات، و أن نصحح مسار حياتنا، و نقوّم سلوكنا و أخلاقنا، و أن نبرّئ ذممنا من حقوق الناس و نحسن التعامل معهم ، و أن نستحضر دائماً مراقبة الله تعالى في كل أعمالنا و أقوالنا كما قال صلى الله عليه و سلم في مقام الإحسان :” أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك”. و الحمد لله رب العالمين.
المصادر و المراجع :
1- صحيح مسلم : [8\18] رقم (2581).
2-  صحيح البخاري : [8\39] رقم (6138)، و صحيح مسلم : [1\49] رقم (47).

الشيخ عبد السميع ياقتي

الشيخ عبد السميع ياقتي عالم إسلامي من علماء سورية، مواليد حلب 1977م

نال الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية جامعة حلب، ودبلوم الشريعة والماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون جامعة أم درمان في السودان، وهو الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول

تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ عبد الرحمن الشاغوري، والشيخ مصطفى التركماني، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، رحمهم الله، والشيخ الدكتور محمود مصري، والعلامة الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ و الشيخ عمر بن حسين الخطيب والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من علماء الشام وحضرموت والإمارات. 

 عمل في مجال التدريس والتوجيه الثقافي في دار الأيتام وفي ثانويات حلب، وكان إماماً وخطيباً وقارئاً في مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، ومدرباً معتمداً للخطباء في برنامج تأهيل الخطباء في أبو ظبي

و يقوم بإعداد و تدريس برنامج تعليم الشباب في سيكرز عربية للعلوم الشرعية

للشيخ مؤلفات أهمها: إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه، وبرنامج (رسول الله فينا) ﷺ