كيف ندرس آيات الأحكام؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

كيف ندرس آيات الأحكام؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
آيات الأحكام هي الآيات التي تحتوي على الأحكام الشرعية المشتملة على الأوامر والنواهي والمسائل الفقهية في القرآن الكريم، فهي الآيات التي تُستنبط منها الأحكام.

والأصل عندما نطلق آيات الأحكام فنقصد بها كل الأحكام، سواء كانت أحكامًا اعتقادية، أو عملية فرعية، أو سلوكية وأخلاقية، إلاّ أن العلماء تعارفوا على إطلاق آيات الأحكام على أحكام القرآن العملية الفرعية، المعروفة بالفقهية.

ولقد قصدت طائفة من أهل العلم  إلى التّركيز على تفسير آيات الأحكام الّتي تشرح شرائع الإسلام وتبيّن الحلال والحرام فأفردوها بالتفسير والدراسة والاستنباط منها، وإذا تعرّضوا لما سوى ذلك فهو مقصود بالتّبع لا بالأصالة. وقد صار لهذا اللون من التفسير اسم خاص به وقواعد تضبطه؛ فسمي بالتفسير الفقهي، أو تفسير الفقهاء، أو تفسير آيات الأحكام، أو أحكام القرآن، كما كان المتقدمون يعرفونه به؛  أي الأحكام الفقهية المستنبطة من القرآن.

وتفاسير آيات الأحكام (تفاسير الفقهاء) موزّعة على المذاهب الفقهيّة الثّلاثة: الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة، ومن نماذجها:

1 – أحكام القرآن: تأليف: أبي بكر أحمد بن عليّ الرّازيّ ‌الجصّاص، المتوفّى سنة (370 هـ)، هذا الكتاب موضوع على طريقة الحنفيّة في الفقه، والتزم فيه تفسير آيات الأحكام خاصّة، وقد يجاوزها إلى غيرها قليلاً، ويعتني بتقرير ذلك من جهة اللّغة والأصول، كما يعتمد على النّقل من الحديث والأثر، ويسوق كثيرًا من ذلك بأسانيده، ويذكر خلاف الفقهاء، ويناقشه، ويرجح مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

‌‌2 – أحكام القرآن: تأليف: الإمام أبي الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ الطّبريّ، الملقّب «الكيا» الهرّاسيّ، المتوفّى سنة (504 هـ)، هذا الكتاب موضوع على طريقة الشافعية في الفقه.

‌‌3 – أحكام القرآن: تأليف: الإمام المحقّق القاضي أبي بكر محمّد بن عبد الله الإشبيليّ المعروف بـ «ابن العربيّ»، المتوفّى سنة (543 هـ). كتابه من أجلّ هذه الكتب الموضوعة في هذا الباب.

4 – الجامع لأحكام القرآن. تأليف: الإمام أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبيّ، المتوفّى سنة (671 هـ).

ومما ينبغي معرفته عند تفسير آيات الأحكام:

أولاً: أن نعلم عددها: وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فقيل: هي خمسمائة آية، وقيل: بل مائتا آية فقط، وقيل: بل هي مائة وخمسون آية فقط، وقيل: هي غير محصورة بعدد.

ولعل من قال بأنها خمسمائة آية، أراد الآياتِ المصرّح بها في الأحكام، وإلاَّ فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير من الأحكام أيضاً.

ونقل الزركشي عن ابن دقيق العيد قوله: هو غير منحصر في هذا العدد (خمسمئة آية أو أقل)، بل هو مختلِفٌ باختلاف القرائح والأذهان، وما يفتحه الله على عباده من وجوه الاستنباط، ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام. وقال القرافي: ” فلا تكاد تجد آية إلا وفيها حُكم، ‌وحصرها ‌في ‌خمسمائة ‌آية ‌بعيد”. (1)

ثانياً: لابد أن نعلم أن آيات الأحكام على قسمين:

أ- ما صرَّحت الآية بحكمه: وهو كثير في كتاب الله عز وجل، وعامّة أحكام القرآن العظيم من هذا النوع، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178] وكقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ…}[البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الْشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: 185]، وأمثلة ذلك موجود في أغلب السور المدنية التي تكثر فيها آيات الأحكام؛ كسورة البقرة، والنساء، والمائدة.

ب-  أحكام لم تُصرِّح الآيات بحكمه بل يؤخذ من الآيات بطريق الاستنباط والتأمل، وهي على قسمين أيضًا:
1- الحُكم المستنبَط من الآية مباشرة، دون ضَمِّ آية إلى آية أخرى؛ كاستنباط صحة صومِ مَنْ أصبح جُنُبًا، من قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة: 187].

2- الحكم المستنبَط بِضَمِّ الآية إلى آية غيرها لوجود العلاقة بينهما، أو ضم الآية لحديث نبوي. ويمكن أن يمثَّل له باستنباط عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، أنّ أقلّ الحمل ستة أشهر؛ من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف: 15]، مع النظر إلى قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}[لقمان: 14]. فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرًا، يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقل المدة.

ثالثاً: لابد عند تفسير الآيات من النظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وهل قال فيها شيئاً أم لا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفسّر هذه الآيات لأصحابه بقوله وفعله؛ فيُبيِّن مُجمَلَها، ويُقيِّد مُطلَقها، ويخصّص عامّها؛ كما بين رسول الله الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقاديرها، وأوقاتها، مع ورود قول الله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 110]، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام: 141]
كما ينبغي أن نعرف أقوال الصحابة كذلك؛ لأنهم كانوا يهتمون بسؤاله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا النوع من الآيات؛ كما جاء عن عمر بن الخطاب، حين سأل رسول الله عن الكلالة، فقال له: “أَلَا ‌تَكْفِيكَ ‌آيَةُ ‌الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟!”. (2)

كما كان الصحابة يجتهدون بعد وفاته  صلى الله عليه وسلم في دلالات أخرى لآيات الأحكام، لم يسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بين أيديهم فيها عِلْم؛ كما فعل سيدنا أبو بكر مع قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُوْرَثُ كَلاَلَةً}[النساء: 12]، فاجتهد في تفسيرها وتأويلها، وقال:  «إني قد رأيتُ في الكلالة رأيًا؛ فإن كان صوابًا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكُ خطأً فمنّي ومن الشيطان، واللهُ بريء منه، إنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد». (3)

رابعاً: لابد أن يتمكن المشتغل بتفسير آيات الأحكام -كشرط أساسي- من ‌‌العلوم التي يحتاج إليها المفسر وهي:

1 – علم اللغة: المشتمل على النحو والصرف والاشتقاق، وعلوم البلاغة. 2- علم القراءات.

3- علم أصول الدين. 4 – علم أصول الفقه وأصول الاستنباط. 5 – الأحاديث المبينة للتفسير، مثل أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، أو ما فيه بيان لتفسير المجمل أو المبهم …5- علم الفقه، ومعرفة أقوال الأئمة المجتهدين.

خامساً: التعرف على مناهج علماء تفسير آيات الأحكام في كتبهم، وذلك بالرجوع لكتب مناهج المفسرين، وكتب علوم القرآن.

سادساً: الرجوع لكتب تفسير آيات الأحكام التي سبق وذكرنا بعضها، لكن يفضل عند الابتداء بدراسة آيات الأحكام أن تكون البداية من الكتب المعاصرة مثل كتاب: تفسير ‌آيات ‌الأحكام للشيخ محمد علي السايس الأستاذ بالأزهر الشريف، وكتاب روائع البيان ‌تفسير ‌آيات ‌الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني.

سابعاً: الرجوع للكتب التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام مثل كتاب: طرح التثريب في شرح التقريب للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، وكتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام للشيخ محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الكحلاني ثم الصنعاني، وكتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لمؤلفه: الإمام محمد بن علي الشوكاني. وغيرها كثير.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): ينظر: الزركشي البرهان في علوم القرآن (2/3)؛ الزركشي البحر المحيط في أصول الفقه (8/230)؛ نجم الدين الطوفي شرح مختصر الروضة (3/577)؛ القرافي شرح تنقيح الفصول ص437.

(2): صحيح مسلم (567).

(3): الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن (8/53).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي.

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.