كيف تعامل العلماء المسلمون القدماء مع تحديات عصرهم من نظريات الفلسفة المادية والإلحاد وغيرها؟

يجيب عن السؤال الشيخ عبد السميع ياقتي

السؤال

كيف تعامل العلماء المسلمون القدماء مع تحديات عصرهم من نظريات الفلسفة المادية والإلحاد وغيرها؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و على آله و صحبه أجمعين، و بعد:

اعتمد العلماء المسلمون القدماء في مواجهة تحديات عصرهم، مثل الفلسفات المادية والآراء الإلحادية، على أسلوب الحوار الفكري، واستخدام المنهج العقلي ، بالإضافة إلى الاعتماد على الفهم الدقيق للنصوص الدينية. مما أضاف بُعدًا فكريًا عميقًا للفكر الإسلامي.فكانت ردودهم مزيجًا من الحجج العقلية والفلسفية المستمدة من القرآن والسنة، كما في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور 35]، و كما في حديث النبي صلى الله عليه و سلم : «لَا عَدْوَى. فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الْإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ، فَيَأْتِيهِ الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَتَجْرَبُ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ.» رواه البخاري(1)

وهذه بعض الطرق التي تعامل بها العلماء المسلمون مع هذه التحديات، سنذكرها باختصار، ثم سنركز على أهمها و هو علم الكلام ، ولنأخذ إمام الحرمين الجويني نموذجاً.. (2)

1. استيعاب الفلسفة وترشيدها:

فالعلماء المسلمون لم يرفضوا الفلسفة الغربية القديمة أو اليونانية بشكل كامل، بل قاموا بدراسة وتحليل هذه الأفكار، ثم التوفيق بينها وبين العقيدة الإسلامية، أو نقدها إذا تعارضت معها.
و من أبرز الأمثلة على ذلك؛ الإمام أبو حامد الغزالي الذي انتقد الفلسفة المادية التي اعتمدت على العقل وحده بعيدًا عن الوحي. في كتابه “تهافت الفلاسفة“، وردّ على الفلاسفة في عصره الذين اتبعوا الفلاسفة الإغريق مثل أرسطو و أفلاطون فيما يتعلق بقضايا أساسية كقدم العالم والسببية، معتبرًا أن الاعتماد الكامل على الفلسفة العقلية قد يؤدي إلى الإلحاد. واعتبر أن هذه الفكرة تتناقض مع العقيدة الإسلامية التي تؤكد أن الله هو خالق كل شيء وأن العالم له بداية.

2. التركيز على فطرة الإنسان:

فقد اعتمد العلماء المسلمون – أيضًا – على الفطرة ؛ كدليل على وجود الله، مؤكدين أن الإنسان بطبيعته يميل إلى الإيمان بوجود خالقٍ لهذا الكون.
فالقرآن ذاته يشير إلى أن الفطرة هي دافع داخلي يجعل الإنسان يعترف بوجود الله كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].

3. المناظرات والحوارات القائمة الذكاء و سرعة البديهة في الرد على شبهاتهم بأسلوبهم:

 كالمناظرة المشهورة بين أبي حنيفة و الملحدين الذين أقام عليهم الحجة؛ عندما لم يصدّقوا سبب تأخره عن المناظرة..، بأن مركباً صغيراً قد صُنع بنفسه، ثمّ عبر به النهر وجاء إليهم ..

4. الاعتماد على العلم والتفكر في الكون:

فالقرآن والسنة قد حثا على استخدام العقل والتفكر في الكون؛ كوسيلة للوصول إلى الإيمان بالله.

5. التركيز على الأخلاق والقيم الروحية:

فالعديد من العلماء -مثل الغزالي وابن القيم – قد أكّدوا على أن الدين ليس فقط تفسيرًا للعالم المادي، بل أيضًا منظومة أخلاقية وروحية تقود الإنسان إلى السعادة الحقيقية.

6. نشأة علم الكلام والاعتماد عليه في ردّ شبه المبطلين:

فعلم الكلام كان إحدى أهم الأدوات الرئيسية التي استخدمها العلماء المسلمون في الرد على الإلحاد والمذاهب المادية.
ومن أشهر العلماء و الأئمة الذين برعوا في هذا المجال:

الإمام أبو الحسن الأشعري والإمام أبو منصور الماتريدي، و كذلك من جاء بعدهم كالإمام الباقلاني و إمام الحرمين الجويني و الغزالي وغيرهم كثير

– قلت في كتابي (إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه): “يعتبر إمام الحرمين من أتباع المذهب الأشعري بل من أئمته ، ذلك أن اتِّباعه كان اتَّباع تجديد لا تقليد ، حيث إنه أحكم طريقة الجدل الهادف والمناظرة ، معتمداً على استخدام العقل في فهم النصوص الشرعية واستنباط الأدلة منها ، فهو لم يضع أصولاً جديدة ، إنما وضع طريقة للفهم والاستنباط ، وإقامة الأدلة المستندة إلى العقل والمنطق ، كما هو واضح من خلال كتبه في العقيدة كالإرشاد وغيره ” (3)

و قد عرّف إمامُ الحرمين علمَ الكلام بقوله: ” معرفة العالم ، وأقسامه ، وحقائقه ، وحدثه ، والعلم بمحدثه ، وما يجب له من الصفات ، وما يستحيل عليه ، وما يجوز في حقه ، والعلم بالنبوات ، وتمييزها بالمعجزات عن دعاوي المبطلين ، وأحكام النبوات ، والقول فيما يجوز ويمتنع من كليات الشرائع ” (4)

و عرّفه الإمام الغزالي بقوله : ” هو علمٌ، مقصوده : حفظ عقيدة أهل السنة ، وحراستها عن تشويش أهل البدعة ” (5)

و عرّفه عضد الدين الإيجي بقوله : ” الكلام: علم ، يُقتدر معه على إثبات العقائد الدينية ، بإيراد الحجج ، ودفع الشبه ” (6)
وقد خلصت إلى تعريفٍ مختصرٍ جامعٍ لما ذُكر من التعريفات في علم الكلام فقلت : هو

“معرفة العقائد الدينية ، وإثباتها بالأدلة اليقينية ، ورد شبه المخالفين”(7) 

فهذه هي خلاصة الطرق و الأساليب التي تعامل بها علماء المسلمين قديماً مع شبهات الملحدين و نظرياتهم الفلسفية المادية الباطلة ، من خلال التفاعل العميق مع الفكر الفلسفي والعلمي السائد في عصرهم، واستخدام العقل والنقل، والمنطق والفلسفة و سائر العلوم الطبيعية، لإثبات حقيقة الإيمان بالله تعالى ، والرد على الشبهات. و الله أعلم

الهوامش:
1- صحيح البخاري: رقم 5775
2- للتوسع ، يمكن الرجوع إلى كتابي :( إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام و أصول الفقه)، وهو رسالة ماجستير قُدمت في جامعة أم درمان، عام 2009
3- إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام و أصول الفقه، عبد السميع ياقتي، صفحة (62)
4- كتاب البرهان في أصول الفقه، إمام الحرمين الجويني ، [1/5].
5- المنقذ من الضلال ، للإمام محمد بن محمد الغزالي ، المتوفى سنة (505هـ) ، ص [39 ].
6- كتاب المواقف، عضد الدين الإيجي،  المتوفى سنة (756هـ) ، صفحة[31]
7- إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام و أصول الفقه، عبد السميع ياقتي، صفحة (103)

الشيخ عبد السميع ياقتي

الشيخ عبد السميع ياقتي عالم إسلامي من علماء سورية، مواليد حلب 1977م

نال الإجازة في الشريعة من كلية الشريعة جامعة دمشق، ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية جامعة حلب، ودبلوم الشريعة والماجستير في الشريعة من كلية الشريعة والقانون جامعة أم درمان في السودان، وهو الآن بصدد إعداد أطروحة الدكتوراة في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول

تتلمذ على أكابر العلماء: كالشيخ عبد الرحمن الشاغوري، والشيخ مصطفى التركماني، والشيخ الدكتور نور الدين عتر، رحمهم الله، والشيخ الدكتور محمود مصري، والعلامة الحبيب عمر بن سالم بن حفيظ و الشيخ عمر بن حسين الخطيب والشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من علماء الشام وحضرموت والإمارات.

 عمل في مجال التدريس والتوجيه الثقافي في دار الأيتام وفي ثانويات حلب، وكان إماماً وخطيباً وقارئاً في مسجد الشيخ زايد في أبو ظبي، ومدرباً معتمداً للخطباء في برنامج تأهيل الخطباء في أبو ظبي

و يقوم بإعداد و تدريس برنامج تعليم الشباب في سيكرز عربية للعلوم الشرعية

للشيخ مؤلفات أهمها: إمام الحرمين الجويني بين علم الكلام وأصول الفقه، وبرنامج (رسول الله فينا) ﷺ