كيف أعلم أني بلغت مرتبة الاستقامة على الحق؟

يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى 

السؤال

كيف أعلم أني بلغت مرتبة الاستقامة على الحق؟

الجواب

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

الاستقامة ‌على ‌الحق هي أُسِّ الواجبات، ورُكن المعاملات، وهي كلمة آخذةٌ بمجامع الدّين كلِّه، ومعناها: القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصّدق والوفاء بالعهد، تتعلّق بالأقوال والأفعال والنّيّات، والاستقامة فيها وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله تبارك وتعالى.

 يقول الله تبارك وتعالى عنها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ‌ثُمَّ ‌اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30] ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ‌ثُمَّ ‌اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: 13] وعن أبي بكر ثم استقاموا: أي لم يشركوا بالله شيئا. وعن عمر: استقاموا على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعالب. وقال عثمان: ثم أخلصوا العمل لله. (1)

والاستقامة تتعلق بسلوك الإنسان ظاهرًا وباطناً، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والمداومة على ذلك حتى الممات.

وحقيقة الاستقامة:

عدم الاعوجاج والميل، والسين والتاء فيها للمبالغة في التقوّم، فحقيقة استقام: استقلَّ غيرَ مائلٍ ولا منحن.

وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يَجمع معنى حُسن العمل والسيرة على الحق والصدق قال تعالى: ﴿‌فَاسْتَقِيمُوا ‌إِلَيْهِ ‌وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 6] وقال

أيضاً: ﴿‌فَاسْتَقِمْ ‌كَمَا ‌أُمِرْتَ ﴾ [هود: 112]، ويقال: استقامت البلاد للملِك، أي أطاعت، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ ‌فَاسْتَقِيمُوا ‌لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7] فاستقاموا هنا يشمل معنى الوفاء بما كلِّفوا به وأول ما يشمل من ذلك أن يثبُتُوا على أصل التوحيد، أي لا يغيّروا ولا يرجعوا عنه. (2)

والاستقامة تشير إلى أساس الأعمال الصّالحة، وهو ‌الاستقامة ‌على ‌الحقّ، أي أن يكون وسطًا غير مائل إلى طرفي الإفراط والتّفريط … فكمال الاعتقاد راجع إلى الاستقامة، وعلاقة العبد مع ربه أساسها الاستقامة، وحسن العلاقة بين الناس بل والعلاقة بين الدول راجع إليها أيضاً.

وباستقراء القرآن نجد أن ‌الاستقامة ‌على ‌الحق وجدت في غالبها موجّهةً للرسل عليهم صلوات الله وسلامه. ولكن كما أنها مطلوبة من الأنبياء – أكملُ النّاس استقامة- مطلوبة من عباد الله المؤمنين، بل ومطلوبة من الإنس والجن على العموم.

قال تعالى مخاطباً نبيه: ﴿‌فَاسْتَقِمْ ‌كَمَا ‌أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112] وقال أيضاً: ﴿‌فَلِذَلِكَ ‌فَادْعُ ‌وَاسْتَقِمْ ‌كَمَا ‌أُمِرْتَ ‌وَلَا ‌تَتَّبِعْ ‌أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15]، وقال تعالى مخاطبًا موسى وهارون: ﴿قَالَ ‌قَدْ ‌أُجِيبَتْ ‌دَعْوَتُكُمَا ‌فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 89]
، وقال تعالى مخبرًا عن الإنس والجن: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا ‌عَلَى ‌الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16]

وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ ‌قَوْلًا ‌لَا ‌أَسْأَلُ ‌عَنْهُ ‌أَحَدًا ‌غَيْرَكَ، قَالَ: ” قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ”. (3)

ولا أدلَّ على أهمية الاستقامة أنها كانت سبباً في إقبال الناس على اعتناق الإسلام في البلاد التي لم تصل إليها جيوش المسلمين، وإنما وصلت إليها نماذج من أفراد المسلمين في أحد مفاصل الحياة وهو التعامل الاقتصادي التجاري؛ فكان من سلوك هؤلاء التجار المسلمين واستقامتهم أن حمَل أممًا عديدةً على اعتناق الإسلام والدخول في دين الله أفواجاً. والتجارة وإن كانت من الأمور المادية التي تقوم على طلب الربح، فهي في حقيقتها مختبرٌ عملي لكشف مبادئ الدين في أخلاق التجار، وقد أثبت التجار المسلمون أنهم دعاة الإسلام بما كانوا يتخلقون به من أخلاق الإسلام حتى رغب الناس في اعتناق دينهم حباً في أخلاقهم وحسن معاملتهم.

وأخيراً:

الاستقامة على الحق هي مفتاح للسعادة والنجاح في الدنيا والآخرة، ومما يعين على تحقيق الاستقامة: مراقبة الله تعالى في السر والعلن، وأن تستشعر وأنت تعيش في هذه الدنيا أن الله يراك يعلم سرك ونجواك، وتذكر قول الله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ ‌مِثْقَالِ ‌ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61]  وقوله تعالى: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ ‌مِثْقَالُ ‌ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 3] وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” ‌اسْتَقِيمُوا ‌وَلَنْ ‌تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ”. (4)
وتذكر أن الجماعة أن تكون على الحق، ‌ولو ‌كنت ‌وحدك. وقد سئل بعض العارفين عن تعريف الكرامة، فقال: ‌الاستقامةُ ‌عينُ ‌الكرامة. فالاستقامة في حقيقتها تعني الثبات على السلوك السوي والطريق المستقيم. رزقني الله وإياك الاستقامة في الأقوال والأفعال والأحوال…آمين.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(1): ينظر: الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (24/ 282)؛ محمد علي الصابوني: صفوة التفاسير (3/113).
(2):  ينظر: الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (24/ 282).
(3): مسند أحمد (15416).
(4): مسند أحمد (22378).

[الشيخ] أنس الموسى

الشيخ أنس الموسى هو الشيخ الحافظ الجامع أنس الموسى بن محمد بشير من مواليد سوريا – حماة 1974م 

تخرج في المعهد الهندسي قسم الإنشاءات العامة بدمشق، وتخرج في جامعة الأزهر كلية أصول الدين تخصص الحديث النبوي. 

قرأ على كبار علماء دمشق، منهم الشيخ عبد الرحمن الشاغوري والشيخ أديب الكلاس وغيرهم.

حفظ القرآن وأُجير به وبالقراءات العشر المتواترة،  على الشيخ بكري الطرابيشي والشيخ موفق عيون، كما وتخرج من مدرسة الحديث العراقية.

درس الكثير من المواد الشرعية في المعاهد الشرعية في سوريا وتركيا.

إمام وخطيب لمدة تزيد على 15 سنة.

مدرس للقرآن الكريم بمختلف قراءاته ورواياته.

حالياً يعمل كمدرس في مؤسسة سيكيرز، ومسؤول التوجيه الأكاديمي فيها.

أنهى مرحلة الماجستير في الحديث النبوي، وهو الآن يكمل في مرحلة الدكتوراه بنفس التخصص، متزوج ومقيم في إستانبول.