سلسلة شعب الإيمان | كيف نخاف من الله ج3 | المقالة الثانية والعشرون | د. محمد فايز عوض


          الخوف من الله تعالى واجب على كل مؤمن ومؤمنة؛ كما قال سبحانه: ﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]

وإذا كان المسلم محتاجاً إلى تزكية نفسه بالخوف من الله تعالى في كل وقت، فإن الحاجة إليه في هذا الزمن شديدة؛ لكثرة المُغرَيات والفِتن، وبين أيدينا أمور يُستجلب بها الخوف من الله تعالى، وهي على النحو التالي:

  1. تدبُّر الوحي المُبين كتاباً وسُنَّة:
              قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 30]. أي: يحذِّركم اللهُ نفسَه أنْ تُسخِطوها عليكم.
              قال الحسن البصري رحمه الله في معنى الآية:  “يسرُّ أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً، يكون ذلك مُناه، وأمَّا في الدنيا فقد كانت خطيئتُه يستلِذُّها”.
              وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ! فَقَالَ: الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ» رواه البخاري. وعند مسلم: «الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ».

  2. التفكُّر في الموتِ وشدَّتِه:
              قال الله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19]. أي: جاءت غمرةُ الموت وشدَّتُه بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المُنْكِرُ لها عياناً، فذلك الموت الذي كُنتَ تهرب منه وتفزع.
              والنبي لَمَّا تغَشَّاه الموتُ، جَعَلَ يمسح العرقَ عن وجهه، ويقول: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» رواه البخاري.
              وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا، أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ» رواه ابن ماجه.
              فلو أنَّ الميت عاد للدنيا فأخبر أهلَها بالموت، ما لذُّوا بنوم، ولا انتفعوا بعيش، ولو لم يكن بين يدي العبد المسكين، كربٌ ولا هولٌ ولا عذاب، سوى سكرات الموت بمجردها؛ لكان جديراً أن يتنغَّص عليه عيشُه، ولا يعرف سكرات الموات إلاَّ مَنْ عاينها وذاقها.

  3. التفكر في القبر وهوله وعذابه:
              عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ قَالَ: يَا إِخْوَانِي، لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا» رواه ابن ماجه.

  4. التفكر في القيامة وأهوالِها:
              قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ۞ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 1-2]

    ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ تراهم كأنَّهم سُكارى، يترنَّحون تَرَنُّح السكران؛ من هَول ما يُدركهم من الخوف والفزع. ﴿وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ وما هم على الحقيقة بِسكارى من الخمر ﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ هذا استدراكٌ لِمَا دهاهم، أي: ليسوا بسكارى، ولكنَّ أهوال الساعة وشدائدَها أطارت عقولَهم، وسلَبَتْ أفكارَهم فهم من خوف عذاب اللهِ مُشْفِقون.
              وقال تعالى: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ [المزمل: 17].
                                     لقد شاب الصغيرُ بغير ذَنْبٍ **** فكيف تكونُ حالُ المُجْرِمينا؟

              وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» رواه البخاري ومسلم.

  5. التفكر في النار وشدة عذابها:
             
    قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 46]. والنَّفَحة: هي الحظُّ والنصيب، يقال: نَفَحَ فلانٌ فلاناً. أي: أعطاه قِسْماً ونَصيباً من المال.
              وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: 36]. وقال النبي : «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا؛ فَإِنَّهُمْ لاَ يَمُوتُونَ فِيهَا، وَلاَ يَحْيَوْنَ» رواه مسلم.

  6. تفكُّر العبدِ في ذنوبه:
              العبد قد ينسى ذنوبَه، لكنَّ اللهَ تعالى أحصاها عليه، فإنْ تُحِطْ به تُهلكْه؛ إنْ وكَلَه اللهُ إليها، فليتفكَّرْ في عقوبات الله تعالى عليها في الدنيا والآخرة، ولا تَغُرَّنَّ المُذنبَ النِّعمُ، فقد قال النبي : «إِذَا رَأَيْتَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ؛ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ» صحيح، رواه البيهقي.
              وقال النبي : «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» رواه ابن ماجه.

  7. أنْ يَعلم العبدُ أنه قد يُحال بينه وبين التوبة:
              وذلك بموتٍ مفاجئ، أو فِتنةٍ مُضِلَّةٍ، أو غفلةٍ مُستمرة، أو تسويفٍ وإمدادٍ إلى الموت، أو غير ذلك. وعندها يندم حيث لا ينفع الندم، قال الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: 24]. والحَوْلُ بين الشيءِ والشيء: هو الحَجْز بينهم، وإذا حَجَز اللهُ بين عبدٍ وبين قلبه في إدراك شيء؛ لم يكن للعبد سبيلٌ إلى إدراك ذلك الشيء.

  8. التفكر في سوء الخاتمة:
              فإنَّ العبد لا يدري ما يحدث له في بقيَّة عمره! قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34].
              وقال النبي : «لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلاَبًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلَيَاناً» رواه أحمد.
              وكم سَمِعْنا عمَّن آمن ثم كفر، وكم رأينا مَن استقام ثم انحرف؛ ولذلك كان النبي كثيراً ما يُردِّد في دعائه: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» رواه الترمذي.
              قال القرطبي رحمه الله: “فلا تعجبْ بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قُرَبِك، فإنَّ ذلك وإنْ كان من كَسبِك؛ فإنه من خَلْقِ ربِّك وفضلِه الدارِّ عليك وخيرِه، فمهما افتخرتَ بذلك كنت كالمفتخر بمتاع غيره، وربما سُلِبَ عنك فعاد قلبُك من الخير أخلى من جوف البعير”.
              كان السلف الصالح يشتدُّ خوفهم من سوء الخاتمة: فقد كان سفيان الثوري رحمه الله يشتد قلقُه من السوابق الخواتيم، فكان يبكي ويقول:  أخاف أنْ أكون في أمِّ الكتاب شقِيًّا، ويبكي ويقول: أخاف أنْ أُسلَبَ الإيمانُ عند الموت.
              وكان مالك بن دينار – رحمه الله – يقوم طُول ليلِه قابضاً على لِحيته ويقول: (يا رب، قد علمتَ ساكِنَ الجنةِ من ساكنِ النار، ففي أيِّ الدارين منزل مالِكٍ).
              ولمَّا احتُضِر عامرُ بن قيسٍ رحمه الله “فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]”.
              فإذا كان هذا حالُ الصالحين الأبرار، فنحنُ أجدرُ بالخوف منهم، وإنما أمِنَّا لِغَلبة جهلنا وقسوة قُلوبِنا؛ لأنَّ القلب الصافي تُحرِّكه أدنى مخافةٍ، والقلبَ القاسي لا تنفعُ فيه كلُّ المواعظ.

 

  • ومن أهم الأمور التي يُستجلب بها الخوف من الله تعالى:
              * الاستمرار في محاسبة النفس حتى آخِرَ العُمر: وكثيراً ما يُؤكد السلف الصالح على أهمية محاسبة النفس، فها هو الحسن البصري يقول: “إن المؤمن – واللهِ – ما تراه إلاَّ يلوم نفسَه على كل حالاته، يستقصِرُها في كل حال – أي: يتهمها بالتقصير – فيندم، ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قدماً لا يُعاتب نفسه”.

          وقال ميمون بن مِهران: (لا يكون العبدُ تقيًّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبةً من الشريك لشريكه). ولذا قيل: النفس كالشريك الخَوَّان، إنْ لم تُحاسبْه ذهب بمالك.

          ومحاسبتهم لأنفسهم امتدت حتى آخر لحظات العمر.. وقد كان سفيان الثوري يقول – وهو في سياق الموت: (أتطمعُ لمثلي أن ينجو من النار؟).