سلسلة شعب الإيمان | الاحتجاج بالقدر | المقالة السادسة عشرة | د. محمد فايز عوض



          إنَّ اعتقادَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ معلومٌ للهِ تعالى منذ الأزَلِ، ثمَّ قام بكتابتِه، وأنَّه لا يخرجُ شيءٌ عن مشيئتِه وخَلْقِه: لا يعني جوازَ الاحتجاجِ بذلك على الوقوعِ في الكُفرِ أو الشِّركِ أو المعاصي، بل تلك حُجَّةٌ باطِلةٌ مردُّها إلى عدَمِ فَهمِ المعنى الحقيقيِّ للقَضاءِ والقَدَرِ؛ 

فإنَّ كونَ الشَّيءِ مكتوبًا عند اللهِ تعالى لا يعني أنَّ الإنسانَ مجبورٌ على فِعْلِه، 

          بل له حريةُ الاختيارِ التامَّةُ وتحمُّلُ مَسؤوليةِ اختيارِه وَحْدَه، فيُثابُ على ذلك أو يُعاقَبُ عليه، وقد أُرسِلَت الرسُلُ وأُنزِلَت الكُتُبُ لبَيانِ الحَقِّ من الباطِلِ؛ كي يختارَ الإنسانُ طريقَه على بصيرةٍ، ولكِنْ لأنَّ عِلمَ اللهِ كامِلٌ ولا يغيبُ عنه شيءٌ مُطلقًا، فإنَّ اللهَ يَعلَمُ مُسبقًا ما سيختاره الإنسانُ، فكتب هذا الذي سيختارُه عنده،

          ولأنَّ عِلمَ اللهِ تامٌّ سيُطابِقُ دائِمًا ما يفعَلُه الإنسانُ ما هو معلومٌ ومكتوبٌ سابقًا عند اللهِ تعالى، فلن يخرُجَ شيءٌ أبدًا عمَّا عَلِمَه وكَتَبَه. كما أنَّ هذا الاختيارَ البشَريَّ مبنيٌّ على إرادةٍ ممنوحةٍ للإنسانِ، فخَلَق اللهُ تعالى له العَقْلَ وخَلَق له الإرادةَ، فهو يختارُ ما يشاءُ ويُريدُ.

          ولو اختار سُلوكَ طريقٍ ما أو القيامَ بعَمَلٍ ما فإنَّ اللهَ قد يمنعُه من ذلك لسبَبٍ، أو يتركُه لاختياره دون تدخُّلٍ إلهيٍّ لسَبَبٍ، وهذه الأسبابُ راجعةٌ إلى الإنسانِ نَفْسِه، فمثلًا إذا اختار العبدُ الهدى يزيدُه اللهُ هُدًى أو يمنعُه من الوقوعِ في الضَّلالِ بسَبَبِ هدايتِه الأولى التي اختارها، وهو فَضلٌ من اللهِ تعالى، وإذا اختار الضَّلالَ قد يتركُه وما اختاره فلا يحجُزُه عنه بسببِ ضَلالِه الذي اختاره، أو يُضِلُّه بسببِ تعَمُّدِه واختيارِه الوقوعَ في الظُّلمِ والتكذيبِ بالحَقِّ ونحوِ ذلك، وهذا عدلٌ منه سُبحانَه، فرجع الأمرُ إلى حريَّةِ الاختيارِ للإنسانِ، وعليه فلا يمكِنُ أبدًا جوازُ الاحتجاجِ بالقَدَرِ على الكُفرِ أو المعاصي. هذا والآياتُ القرآنيةُ صريحةٌ في أنَّ اللهَ تعالى لا يرضى لعبادِه الكُفرَ، ولا يأمُرُ بالفحشاءِ، فكيف يُجبرُ الإنسانَ على فِعْلِها، ثمَّ هو بعد ذلك يحاسِبُه ويعاقِبُه عليها؟ تنَزَّه اللهُ وتعالى عن الظُّلمِ؛ فهو أعدَلُ العادِلينَ، وأحكَمُ الحاكِمينَ سُبحانَه.

          أما ما يُصيبُ الإنسانَ مِن مصائبَ كفَقرٍ أو مَرَضٍ وغيرِه، ولم يكُنْ له أيُّ يدٍ في التسَبُّبِ بذلك، فلم يقَعْ عليه ما وقع بسَبَب ذنبٍ أو تفريطٍ منه ونحوِ ذلك؛ فهذا الذي يُحتَجُّ فيه بالقَضاءِ والقَدَرِ، فيقالُ: هذا قضاءُ اللهِ وقَدَرُه، نؤمِنُ ونرضى به، مع اجتهادِ المصابِ المُبتَلى في دَفْعِه عنه، فهو يدفَعُ قَدَرَ اللهِ بقَدَرِ اللهِ.

          “وقال علي القاري: (لا يجوزُ للعاصي حالَ ارتِكابِ المعصية أن يعتَذِرَ بالقَضاءِ والقَدَرِ والمشيئةِ، وإن كان حقًّا في نفسِ الأمرِ؛ ولهذا ذمَّ اللهُ سُبحانَه الكُفَّارَ بقَولِه: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام: 148].

          وقال أيضًا: (شاعت كَلِمةٌ بين النَّاسِ في هذا الزَّمَنِ المتأخِّرِ، وهي قولةُ: هل الإنسانُ مُسَيَّرٌ أم مخيَّرٌ؟)

          الأفعالُ التي يفعَلُها الإنسانُ يكونُ مخيرًا، فالإنسانُ مخيَّرٌ؛ فبإمكانِه أن يأكُلَ ويشرَبَ، ولهذا بعضُ النَّاسِ إذا سمع أذانَ الفَجرِ قام إلى الماءِ لِيَشرَبَ، وذلك باختيارِه، وكذلك إذا جاء الإنسانَ النومُ فإنه يذهَبُ إلى فراشِه لينامَ باختيارِه، وإذا سمع أذانَ المغربِ، والتَّمرُ أمامه والماءُ، فإنه يأكُلُ باختيارِه، وهكذا جميعُ الأفعالِ تجِدُ أنَّ الإنسانَ فيها مخيَّرٌ، ولولا ذلك لكان عقوبةُ العاصي ظلمًا، فكيف يعاقَبُ الإنسانُ على شيءٍ ليس فيه اختيارٌ له؟ ولولا ذلك لكان ثوابُ المطيعِ عبَثًا، فكيف يثابُ الإنسانُ على شيءٍ لا اختيارَ له فيه؟! وهل هذا إلَّا من بابِ العَبثِ؟

إذًا فالإنسانُ مخيَّرٌ، ولكِنْ ما يقَعُ من فِعلٍ منه فهو بتقديرِ اللهِ؛ لأنَّ هناك سُلطةً فوق سُلطتِه ولكِنَّ اللهَ لا يُجبِرُه، فله الخيارُ ويفعَلُ باختيارِه.

ولهذا إذا وقع الفِعلُ من غيرِ إرادةٍ من الإنسانِ لا يُنسَبُ إليه، قال تعالى في أصحابِ الكَهْفِ: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾، فنسب الفِعلَ «نقَلِّبُهم» إليه سُبحانَه؛ لأنَّ هؤلاء نُوَّمٌ فلا اختيارَ لهم،

          وقال النبيُّ : ((من نَسِيَ وهو صائِمٌ فأكَلَ أو شَرِبَ فلْيُتِمَّ صَومَه؛ فإنما أطعمه اللهُ وسقاه)) . فنسب الإطعامَ والسَّقيَ إلى اللهِ؛ لأنَّ النَّاسِيَ ما فعل الشيءَ باختيارِه، فلم يختَرْ أن يُفسِدَ صَومَه بالأكْلِ والشُّربِ.

          وقال أيضًا: (الأمورُ التي يفعلُها الإنسانُ العاقِلُ، يفعَلُها باختيارِه بلا ريبٍ… وأما الأمورُ التي تقعُ على العبدِ، أو منه بغيرِ اختيارِه، كالمَرَضِ، والموتِ، والحوادِثِ، فهي بمَحْضِ القَدَرِ، وليس للعبدِ اختيارٌ فيها ولا إرادةٌ) “.

  • الاحتجاجُ بحَديثِ احتِجاجِ آدَمَ وموسى عليهما السَّلامُ

          عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ قال: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عليهما السَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الذي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ في جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إلى الأرْضِ! فَقالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الذي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ وَأَعْطَاكَ الألْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شيءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قالَ آدَمُ: فَهلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أَفَتَلُومُنِي علَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟! قال رَسولُ اللهِ ﷺ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».

فهذا الحديثُ الذي يروي ما جرى بين آدَمَ وموسى عليهما السَّلامُ من محاورةٍ ومحاجَّةٍ قد يُفهَم منه جوازُ الاحتجاجِ بالقَدَرِ على الوقوعِ في الذُّنوبِ والمعاصي، وليس الأمرُ كذلك، وقد بيَّن أهلُ العِلْمِ خَطَأَ هذا الاستدلالِ، وذكروا معانيَ أُخرى يمكِنُ حملُ الحديثِ عليها دون تكَلُّفٍ.

          “وقال النوويُّ: (فحَجَّ آدمُ موسى) برَفعِ آدَمَ، وهو فاعِلٌ، أي: غلبه بالحُجَّةِ وظهر عليه بها، ومعنى كلامِ آدَمَ: أنَّك يا موسى تعلَمُ أنَّ هذا كُتِب عليَّ قبل أن أُخلَقَ وقُدِّرَ عليَّ، فلا بدَّ من وقوعِه ولو حرَصْتُ أنا والخلائِقُ أجمعون على رَدِّ مِثقالِ ذَرَّةٍ منه لم نقدِرْ، فلِمَ تلومُني على ذلك؟ ولأنَّ اللومَ على الذَّنبِ شَرعيٌّ لا عقليٌّ، وإذ تاب اللهُ تعالى على آدَمَ وغفر له، زال عنه اللومُ فمن لامَه كان محجوجًا بالشَّرعِ، فإن قيل فالعاصي منَّا لو قال: هذه المعصيةُ قَدَّرها اللهُ عليَّ، لم يسقُطْ عنه اللومُ والعقوبةُ بذلك وإن كان صادِقًا فيما قاله!
فالجوابُ: أنَّ هذا العاصي باقٍ في دارِ التكليفِ جارٍ عليه أحكامُ المكَلَّفين من العقوبةِ واللَّومِ والتوبيخِ وغيرِها، وفي لومِه وعقوبتِه زجرٌ له ولغيرِه عن مِثلِ هذا الفِعلِ، وهو محتاجٌ إلى الزَّجرِ مالم يمُتْ، فأمَّا آدَمُ فمَيِّتٌ خارجٌ عن دارِ التكليفِ وعن الحاجةِ إلى الزَّجرِ، فلم يكُنْ في القَولِ المذكورِ له فائدةٌ، بل فيه إيذاءٌ وتخجيلٌ. واللهُ أعلمُ”.

وقد يتوجَّهُ جوابٌ آخَرُ، وهو أنَّ الاحتجاجَ بالقَدَرِ على الذَّنبِ ينفَعُ في موضِعٍ، ويضُرُّ في موضعٍ؛ 

          فينفَعُ إذا احتجَّ به بعد وقوعِه والتوبةِ منه وتركِ معُاوَدتِه، كما فعل آدَمُ، فيكونُ في ذِكْرِ القَدَرِ إذ ذاك من التوحيدِ ومعرفةِ أسماءِ الرَّبِّ وصفاتِه وذِكْرِها ما ينتفِعُ به الذَّاكِرُ والسَّامِعُ؛ لأنَّه لا يدفَعُ بالقَدَرِ أمرًا ولا نهيًا، ولا يبطُلُ به شريعةً، بل يخبرُ بالحَقِّ المحْضِ على وَجهِ التوحيدِ والبراءةِ من الحولِ والقُوَّةِ، يُوَضِّحُه أنَّ آدَمَ قال لموسى: (أتلومُني على أن عَمِلتُ عَمَلًا كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلَقَ؟)، فإذا أذنب الرَّجُلُ ذنبًا، ثم تاب منه توبةً، وزال أمرُه حتى كأنْ لم يكُنْ، فأنَّبَه مؤنِّبٌ عليه ولامه، حَسُن منه أن يَحْتَجَّ بالقَدَرِ بعد ذلك، ويقولَ: هذا أمرٌ كان قد قُدِّرَ علَيَّ قبل أن أُخلَقَ، فإنه لم يدفَعْ بالقَدَرِ حقًّا، ولا ذَكَره حُجَّةً له على باطلٍ، ولا محذورَ في الاحتجاجِ به.

          وأمَّا الموضِعُ الذي يضرُّ الاحتجاجُ به ففي الحالِ والمُستَقبَلِ، بأن يرتَكِبَ فِعلًا محرَّمًا أو يترُكَ واجبًا فيلومَه عليه لائمٌ، فيَحْتَجَّ بالقَدَرِ على إقامتِه عليه وإصرارِه، فيُبطِلُ بالاحتجاجِ به حقًّا ويرتَكِبَ باطِلًا، كما احتجَّ به المصِرُّون على شِرْكِهم وعبادتِهم غيرَ اللهِ، فقالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا [الأنعام: 148]، ﴿لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف: 20]. 

          فاحتجُّوا به مصوِّبين لِما هم عليه، وأنهم لم يندَموا على فِعْلِه، ولم يَعزِموا على تَرْكِه، ولم يقِرُّوا بفسادِه؛ فهذا ضِدُّ احتجاجِ من تبيَّن له خطأُ نَفْسِه، ونَدِمَ وعَزَم كُلَّ العَزْمِ على ألَّا يعودَ؛ فإذا لامه لائمٌ بعد ذلك قال: كان ما كان بقَدَرِ اللهِ.

نسأل الله أن يزيدنا إيمانًا ويقينًا، ويثبتنا على دينه ويُحسن لنا الختام.