سلسلة شعب الإيمان | الإيمان بالله ﷻ | المقالة الثالثة | د. محمد فايز عوض

 

الإيمان بالله

حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ ومعناه


قَالَ: أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: “الْإِيمَانُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ” كَمَا قَالَ اللهُ : ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا، فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ [البقرة، 239].

وَمَعْنَاهُ وَالْغَرَضُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالتَّحْقِيقُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ: هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْلٌ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يُطَاعَ قَائِلُهُ، وَبَيْنَ أَنْ يُعْصَى، فَمَنْ سَمِعَ خَبَرًا فَلَمْ يَسْتَشْعِرْ فِي نَفْسِهِ جَوَازَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَدَّقَ، فَكَأَنَّمَا أَمَّنَ نَفْسَهُ بِاعْتِقَادِ مَا اعْتَقَدَ فِيمَا سَمِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكْذُوبًا، أَوْ مُلْبِسًا عَلَيْهِ، 

وَمَنْ سَمِعَ أَمْرًا، أَوْ نَهْيًا فَاعْتَقَدَ الطَّاعَةَ لَهُ فَكَأَنَّمَا آمَنَ فِي نَفْسِهِ بِاعْتِقَادِ مَا اعْتَقَدَ فِيمَا سَمِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، أَوْ مُسْتَسْخَرًا، أَوْ مَحْمُولًا عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَنْزَلَ قَوْلَ الْقَائِلِ آمَنْتُ بِكَذَا، وَالْمُرَادُ أَمَّنْتُ نَفْسِي مَنْزِلَةَ قَوْلِهِمْ وَطَّنْتُ نَفْسِي، أَوْ حَمَلْتُ نَفْسِي عَلَى كَذَا، أَوْ يَكُونُ تَرْكُهُمْ ذِكْرَ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِمْ آمَنْتُ اخْتِصَارًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا يُقَالُ: بِسْمِ اللهِ بِمَعْنَى بَدَأْتُ أَوْ أَبْدَأُ بِسْمِ اللهِ.

 

ثُمَّ الْإِيمَانُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّصْدِيقُ لَا يُعَدَّى إِلَى مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ، وَيَلْصَقُ بِهِ إِلَّا بِصِلَةٍ، وَتِلْكَ الصِّلَةُ قَدْ تَكُونُ بَاءً، وَقَدْ تَكُونُ لَامًا، وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، 

فَالْإِيمَانُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ إِثْبَاتُهُ، وَالِاعْتِرَافُ بِوُجُودِهِ، وَالْإِيمَانُ لَهُ الْقَبُولُ عَنْهُ وَالطَّاعَةُ لَهُ، وَالْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّ إِثْبَاتُهُ وَالِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ، وَالْإِيمَانُ لِلنَّبِيِّ اتِّبَاعُهُ وَمُوافَقَتُهُ وَالطَّاعَةُ لَهُ. 

ثُمَّ إِنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ مُنْقَسِمٌ فَيَكُونُ مِنْهُ مَا يَخْفَى وَيَنْكَتِمُ وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنْهُ بِالْقَلْبِ، وَيُسَمَّى اعْتِقَادًا، وَيَكُونُ مِنْهُ مَا يَنْجَلِي وَيَظْهَرُ وَهُوَ الْوَاقِعُ بِاللِّسَانِ، وَيُسَمَّى إِقْرَارًا وَشَهَادَةً،

 وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى: جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ، وَالْخَفِيُّ مِنْهُ هُوَ النِّيَّاتُ وَالْعَزَائِمُ الَّتِي لَا تَجُوزُ الْعِبَادَاتُ إِلَّا بِهَا، وَاعْتِقَادُ الْوَاجِبِ وَاجِبًا، وَالْمُبَاح مُبَاحًا وَالرُّخْصَة رُخْصَةً وَالْمَحُظُور مَحْظُورًا، وَالْعِبَادَة عِبَادَةً، وَالْحَدّ حَدًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ،

 وَالْجَلِيُّ مِنْهَا مَا يُقَامُ بِالْجَوَارِحِ إِقَامَةً ظَاهِرَةً وَهُوَ عِدَّةُ أُمُورِ مِنْهَا: الطَّهَارَةُ، وَمِنْهَا الصَّلَاةُ، وَمِنْهَا الزَّكَاةُ، وَمِنْهَا الصِّيَامُ، وَمِنْهَا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَمِنْهَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأُمُورٍ سِوَاهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِيمَانٌ وَإِسْلَامٌ وَطَاعَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إِلَّا أَنَّهُ إِيمَانٌ لِلَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ لَهُ وَإِيمَانٌ لِلرَّسُولِ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَبُولٌ عَنْهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً لَهُ إِذِ الْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ” 

 

    • بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ كِلَاْهِمَا شَرْطٌ فِي النَّقْلِ عَنِ الْكُفْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَجْزِ

قَالَ اللهُ ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [البقرة، 136]. “فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا بِاللهِ” وَقَالَ اللهُ ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 14]، “فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ الْعَارِيَ عَنِ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ إِيمَانٌ لَكَانُوا مُؤْمِنِينَ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ”

 

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا مَنَعُوا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» 

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يقولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَآمَنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ «اذْهَبْ فَمَنْ لَقِيتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَذَلَّ بِهَا لِسَانُهُ، وَاطْمَأَنَّ بِهَا قَلْبُهُ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ »

 

      • الإيمان بالغيب

يعتبر الإيمان بالغيب خاصيّةً مميّزةً للبشر عن دونهم من الكائنات، لأنّ الحيوانات لربّما اشتركت مع الإنسان في إدراكها للمحسوس، وأمّا الإيمان بالغيب فالإنسان هو وحده المؤهّل ليؤمن به، وذلك خلافاً للحيوان، حيث يعتبر الإيمان بالغيب من ركائز الإيمان في جميع الرّسالات السّماويّة.

وقد احتوت الرّسالات السّماوية على أمور غيبيّة، لا يقدر الإنسان على أن يعلمها إلا عن طريق الوحي الثّابت في القرآن الكريم والسّنة النّبوية، مثل الأحاديث عن الله سبحانه وتعالى، وافعاله، وصفاته، والسّماوات السّبع، والملائكة، والشّياطين، والجنّة، والنّار، وغير ذلك من الأمور والحقائق التي لا يعلمها الإنسان وليس لديه القدرة على معرفتها لوحده، ولا سبيل إلى إدراكها إلا عن طريق الأخبار التي أنزلها الله سبحانه وتعالى وأوحى بها إلى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. 

 

      • شروط كلمة التوحيد:

إنّ للتوحيد شروطاً مهمّةً، ومنها: 

  1. أن يكون المسلم عالماً بمعناها، وهو المنافي للجهل، فلا يكتفي بأن يقوم بترديدها من دون أن يعلم ما هو معناها، حتّى يكون من أهلها، قال :﴿فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله﴾  [محمد، 19]، وقد أخرج مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله «من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنّة». 
  2. أن يكون المسلم على يقين، ولا يقع في قلبه شكّ فيما جاء بها، أو فيما تضمّنته، وذلك لقوله :﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ [الحجرات، 15]، وقال «أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيهما إلا دخل الجنّة»، رواه مسلم، 
  3. أن يقبل بما تقتضيه هذه الكلمة، وهو ما كان ضدّ الرّد والاستكبار، وهو ما اقتضى عذاب بعض الأقوام، لقوله :﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَل بِالْمُجْرِمِينَ ۞ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات، 34-35]. 
  4. أن ينقاد لما دلت عليه، أن يكون الإنسان عاملاً بما أمره الله سبحانه وتعالى به، أي أن ينتهي عن كلّ الأمور التي نهاه الله سبحانه وتعالى عنه، قال : ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ [لقمان، 22]، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “العروة الوثقى هي لا إله إلا الله”.
    أن يكون صادقاً بقلبه، وأن يوافق قلبه لسانه، قال : ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ۞ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة،8-9].
  5. أن يريد وجه الله سبحانه وتعالى بهذه الكلمة، وأن يكون مخلصاً، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ  [البيّنة، 5].