سلسلة شعب إيمانية | محبة رسول الله ﷺ ج2 | المقالة الثامنة والعشرون | د. محمد فايز عوض

علاماتها و مقتضياتها


          خص الله تعالى نبيه محمداً بخصائص كثيرة ، فهو سيد ولد آدم، وخاتم النبيين، ومرسل إلى الناس أجمعين، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].
ومما لا شك فيه، إن علينا تجاه هذا النبي واجبات كثيرة، يجب القيام بها وتحقيقها، فلا بد من تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.

          وكذلك مما يجب علينا تجاه رسولنا أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والوالد، قال رسول الله «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» رواه البخاري و مسلم.

          ومن المعلوم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته وإلا لم يكن صادقاً في حبه وكان مدعياً لمحبته، فالصادق في محبة النبي تظهر علامة ذلك عليه. ومن هذه العلامات:

الاقتداء به :
          قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ [آل عمران: 31].

          قال جعفر بن محمد: أي ليس الطريق إلى محبة الله إلا اتباع حبيبه، ولا يتوصل إلى الحبيب بشيء أحسن من متابعة حبيبه، ذلك رضاه.

          وقال القاضي عياض: “فمن اتصف بهذه الصفة -يعني: الاقتداء بالنبي ﷺ- فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ولا يخرج عن اسمها، ودليله قوله ﷺ للذي حدَّه في الخمر فلعنه بعضهم وقال: ما أكثر ما يؤتى به!! فقال النبي ﷺ: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله».

موالاة  النبي و آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، والدفاع عنهم، والاهتداء بهديهم والاقتداء بسنتهم.
          وقال الله تعالى: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا رَضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22].

          وقال القاضي عياض: “وهؤلاء أصحابه قد قتلوا أحِباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته ، 

          «مرَّ رسولُ اللهِ ﷺ على عبدِ اللهِ بن أُبيِّ ابنِ سَلولٍ وهو في ظلِّ أجَمةٍ فقال قد غبَّر علينا ابنُ أبي كبشةَ فقال ابنُه عبدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ والذي أكرمك وأنزل عليك الكتابَ إن شئتَ لأتيتُك برأسِه فقال النبيُّ ﷺ لا ولكن بَرَّ أباك وأحسنْ صُحبتَه»

          قال ابن القيم: “فمُحبّ الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنه من المحبين، فكذب من ادّعى محبة محبوبٍ من الناس وهو يرى غيره ينتهك حُرْمَةَ محبوبه ويسعى في أذاه ومساخطه ويستهين بحقه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك، بل قلبه بارد، فكيف يصح لعبد أن يَدَّعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتُهكت، ولا لحقوقه إذا ضيِّعت. وأقل الأقسام أن يغار له من نفسه وهواه وشيطانه، فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه وارتكابه لمعصيته. وإذا ترحَّلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك، فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامةَ محبته ومحبوبيته الجهادَ فقال الله تعالى: ﴿يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيم[المائدة: 54].

ومنها محبة من أحب النبي ﷺ من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، والدفاع عنهم، والاهتداء بهديهم والاقتداء بسنتهم.
          عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي».

          ليس للخلق محبة أعظم ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يحَبَّ لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يُحَبُّ سواه فمحبته تبع لحبه، فإن الرسول إنما يُحَبُّ لأجل الله ويُطاع لأجل الله ويُتَّبع لأجل الله.

          وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «اللهَ اللهَ في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» أخرجه أحمد والترمذي والخلال والبيهقي 

          قال المباركفوري: “«اللهَ اللهَ» بالنصب فيهما، أي: اتقوا الله ثم اتقوا الله، «في أصحابي» أي: في حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، أو التقدير: أذكِّركم الله ثم أنشدكم الله في حق أصحابي وتعظيمهم وتوقيرهم… «لا تتخذوهم غرضًا» أي: هدفًا، ترموهم بقبيح الكلام كما يُرمى الهدف بالسهم، «فبحبي أحبهم» أي: بسبب حبه إياي أحبهم، أو بسبب حبي إياهم أحبهم، «ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم» أي: إنما أبغضهم بسبب بغضه إياي”.

          وقال البيهقي: “ويدخل في جملة حب النبي حب أصحابه لأن الله عز وجل أثنى عليهم ومدحهم… وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان فحبهم أن يعتقد فضائلهم، ويعترف لهم بها، ويعرف لكل ذي حق منهم حقه، ولكل ذي غِنًى في الإسلام منهم غناه، ولكل ذي منزلة عند الرسول منزلته، وينشر محاسنهم، ويدعو بالخير لهم، ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم، ولا يتبع زلاتهم وهفواتهم… ويسكت عما لا تقع ضرورة إلى الخوض فيه مما كان بينهم”.

4- ومن علامات محبته  ﷺ  الثناء عليه بما هو أهله.
          وأبلغ ذلك ما أثنى عليه ربه جل وعلا به، وما أثنى به هو على نفسه، وأفضل ذلك: الصلاة والسلام عليه، لأمر الله عز وجل، وتوكيده، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] ففي هذه الآية أمر بالصلاة عليه، لهذا قال النبي ﷺ «البخيل من ذُكِرت عنده فلم يُصلِ علي» رواه الترمذي.

5ومنها الإكثار من ذكره ، والتشوق لرؤيته،
          فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره وأحب لقائه.
          قال ابن القيم رحمه الله: “كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه، تضاعف حبه له، وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه” 

          وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مِن أشد أمتي لي حبًّا ناس يكونون بعدي يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله».

6- كثرة ذكره له :
          ومن مقتضيات حبه كثرة ذكره، فمن أحب شيئًا يذكره، ويزداد شوقه إلى لقائه، فكل محب يحب لقاء حبيبه، ويرغب في صحبته، ويحرص على مرافقته في الدنيا والآخرة، كيف فرِح الأنصار بمقدم النبي ؟ هذا موقف السيرة النبوية يسترعي انتباهنا، يخرجون في كل صباح إلى الحرة، منتظرين قدومه ، ويجلسون هناك حتى تشتد حرارة الشمس، فيعودون إلى بيوتهم، ويصف البراء بن عازب فرح أهل المدينة بمقدم الحبيب ﷺ إليهم بقوله: “فما رأيت أهل المدينة فرِحوا بشيء فرحهم برسول الله “.

          هناك صحابي جليل، يذكُرُ موتَه وموت الحبيب ، فيخشى مِن عدم تمكنه من النظر إلى وجهه الكريم في الجنة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي ومالي، وإنك لأحبُّ إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك، عرَفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفِعتَ مع النبيين، وأني إذا دخلتُ الجنة خشيتُ ألا أراك، فلم يردَّ عليه النبي ﷺ شيئًا، حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]».

          قال ابن القيم: “لأن العبد كلما أكثر مِن ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه، تضاعَف حبُّه، وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكرِه وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه، فإذا قوي هذا في قلبِه، جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه”.

7- تعظيمه وتوقيره، وإظهار الخشوع عند ذكره:
          ومن مقتضيات حب الرسول تعظيمُه وتوقيره، وإظهار الخشوع عند ذكره.
         
قال إسحاق التجِيبي: كان أصحاب النبي  بعده لا يذكرونه إلا خشعوا، واقشعرت جلودهم، وبكوا، وكذلك كثير من التابعين، ومنهم من يفعل ذلك محبة له وشوقًا إليه، ومنهم يفعله تهيبًا وتوقيرًا.

          ولقد حرَص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تعليم الناس تعظيمَ النبي ميتًا كتعظيمه حيًّا، وذلك مِن تمام وفائه للنبي .

          روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: «كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب، فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: مَن أنتما؟ – أو من أين أنتما؟ – قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتُكما؛ ترفعان أصواتَكما في مسجد رسول الله ﷺ؟!».