سلسلة شعب إيمانية | صفات العلماء | المقالة السابعة والثلاثون | الشيخ د. محمد فايز عوض

صفات العلماء

الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم  و بعد

فتتمة لمقالنا السابق حول صفات العلماء الربانيين نتابع أهم صفاتهم لنتعرف عليهم و نقتدي بآثارهم : فمنها :

♦ الخامسة: الاشتغال بتعليم النّاس، وإرشادهم، والتدرّج في ذلك:

فمن الصفات التي ينبغي أنْ يحرص عليها من أراد أنْ يتشبّه بالربانيين إنْ لم يكن ربانيًا: الحرص على تعليم الناس والصبر على ذلك.

فليس برباني من لم يعتنِ بذلك ويشتغل به، لوصف الله عزّ وجلّ للربانيين بهذه الصفة: {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:79]، فالعالم الذي لا يجود بعلمه ولا يبذله لمن يطلبه، ولا يسعى لتوصيله للمحتاجين إليه، ليس بعالم.

عندما نقل لابن منده رحمه الله، قول شعبة رحمه الله: “من كتبت عنه حديثًا فأنا له عبد، قال ابن منده: “من كتب عني حديثاً فأنا له عبد.” [تاريخ الإسلام – الذهبي 24/173]

فالعلم رحم بين أصحابه، لولا أنّ العلماء دَرَّسُوا هذه العلوم لتلاميذهم، وتلاميذُهم قاموا بواجب نشر وبث ما عَلموا، لاندثر العلم وذهب، ذلك لأنّ العلم بالتعلّم، ولهذا نجد جلّ العلماء من لدن الصحابة وإلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها كانت وظيفتُهم الأساسيّة وعملُهم الرئيس تعليمَ الناس وتدريسهم، فالعلم أمانة في أعناق العلماء، فإذا ترك الناس التعلّم والتعليم أَثموا جميعًا، ولهذا عدّ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهاب العلم وفشوّ الجهل من علامات الساعة التي تؤذن باقترابها.

والعلم المأمور بنشره وتعليمه للناس هو علمُ ما يجب على المرء تعلّمه من حقّ الله ورسوله صلى الله عليه و سلم، وبيان السنة من البدعة، والحلال من الحرام، وهو العلم النافع الذي سأله الرسول صلى الله عليه و سلم ربه.

وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: “أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء.” [مفتاح دار السعادة 1/174]،

وقال النضر بن شميل رحمه الله: “من أراد أن يشرف في الدنيا والآخرة فليتعلّم العلم، وكفى بالمرء سعادة أنْ يوثقَ بِهِ في دين الله، ويكون بين الله وبين عباده،

وقال ابن الجوزي -رحمه الله- تحت فصل: (تعليم الخلق أفضل العبادات) وقد نازعته نفسه إلى العزلة فردّها قائلًا: “وأما الانقطاع فينبغي أن تكون العُزلة عن الشّرّ لا عن الخير، والعُزلة عن الشرّ واجبة على كلّ حال‏، وأمّا تعليم الطالبين وهداية المريدين فإنّه عبادةُ العَالِم‏. [صيد الخاطر ص 84]،

ورحم الله عالم دار الهجرة مالك بن أنس عندما كتب إليه العمري الزاهد يطلب منه أنْ يعتزل مجالس العلم، ويتفرّغ للعبادة، لم يستجب وردّ على كتابه القاسي ردَّ فقيه كما قال الإمام الذهبي رحمه الله.

قال الذهبي نقلًا عن ابن عبد البر في (التمهيد): “إنّ عبد الله العمري كتب إلى مالك يحضّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إنّ الله قسّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فرُبّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشرُ العلم أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظنّ ما أنا فيه بدون ما أنتَ فيه، وأرجو أنْ يكون كلانا على خير وبِرّ.” [سير أعلام النبلاء 8/114]،

 التأليف والتصنيف صنو التدريس:

ومما يجب أنْ ينتبه إليه العلماء الربانيون، ولا يقصروا فيه أبدًا: جانب التأليف والتصنيف، فإنّه هو صنو التدريس والتعليم، سيما في هذا العصر الذي ضَعُفت فيه الهمم، وقَصُرت فيه العزائم، وعسر على الكثير من شباب الأمة التعامل مع كتب ومصنفات الأقدمين، فتيسيرها واختصارها وعرضها بصورة تسهّل الانتفاع بها والاستفادة منها أمر في غاية الأهمية، وهو لا يقلّ نفعًا وأجرًا وفضلًا -إذا أحسنت النية- عن التدريس.

العلماء المشتغلون بتعليم النّاس وتربيتهم وتزكية سلوكهم وتأليف الكتب والمصنّفات النّافعة هم الذين تجتمع فيهم الخصال الثلاثة التي وردت في قوله صلى الله عليه و سلم: « إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ.»[أخرجه مسلم  1631] وليس ذلك إلاَّ للعالم الرباني والفقيه المتفاني، فمصنفاته وعلمه صدقة جارية عليه بعد موته، وكذلك تلاميذه فهم أبناؤه.

فيا فوز من وُفّق لتعليم العلم النافع، والعمل به، ونشره وبثه بين العالمين.

♦ السادسة: الرسوخ في العلم:

من الصّفات التي ينبغي أنْ يتحلّى بها العلماء الربانيون: الرسوخ في العلم والثبات فيه، حتى يستطيعوا التمييز بين المحكم والمتشابه، فعدمُ التمييز بين المحكم والمتشابه هو الذي أوقع الخوارج فيما وقعوا فيه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يؤمنون بمتشابهه ويكفرون بمحكمه”

وحتى يستطيعوا التمييز بين ما يجوز الخوض والبحث عن معانيه وهو المحكم من القرآن -وهو جلّه وهو الذي يحتاجه الناس- وما لا يجوز الخوض فيه وإنّما يُردّ علمه إلى علاَّم الغيوب،.

روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ }[آل عمران:7] ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَاحْذَرُوهُمْ.” [أخرجه مسلم 2665 وأحمد في “مسنده” 24487]

قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجهٌ تعرفه العرب من كلامها، وتفسيرٌ لا يُعْذر أحد بجهالته، وتفسيرٌ يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذِكْره. والله سبحانه وتعالى أعلم.” [الطبري 1/73]

♦ السابعة: مخالطة الناس والصبر على تعليمهم وإرشادهم:

العالم الربّاني هو الذي يخالط النّاس ويتصدّرهم، ويصبر على تعليمهم وإرشادهم وما يصدر منهم من أذى، مقتديًا في ذلك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصَحبه الكرام، وورثة الأنبياء العظام.

قال صلى الله عليه و سلم: « الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»[الترمذي 2507 وابن ماجه 4032]

♦ الثامنة: التواضع، ولين الجانب:

من أهمّ سِمات العلماء الربانيين التواضع، ولين الجانب، قدوتهم في ذلك رسولهم صلى الله عليه و سلم،ووصف الله المؤمنين بقوله:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:54].

وقال صلى الله عليه و سلم: (إنّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد). [مسلم 2865].

وقال صلى الله عليه و سلم قَالَ : «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ». [مسلم 2588 وابن خزيمة 2438 وابن حبان 3248].

♦ التاسعة: الإنصاف، والرجوع إلى الحق:

لهذا ينبغي للعالم الربّاني أنْ يكون رجّاعًا إلى الحقّ إذا تبيّن له، وعليه ألاَّ يستكبر ويستنكف عن قبول الحقّ ولو جاءه من فاجر أو كافر،

وقد ضرب الصحابة الكرام، والعُلماء الأعلام في ذلك المثل الأعلى، والقدوة الصالحة، وإليكَ نماذج من رجوعهم إلى الحقّ:

فقد رجع عمر لقول عليّ في التي وضعت لستة أشهر، روى البيهقي و غيره أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ بِرَجْمِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ : لَيْسَ عَلَيْهَا رَجْمٌ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وَقَالَ : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } ، فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ حَمْلُهُ حَوْلَيْنِ تَمَامٌ لَا حَدَّ عَلَيْهَا أَوْ قَالَ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا قَالَ: فَخَلَّى عَنْهَا ثُمَّ وَلَدَتْ .[البيهقي 15648 وعبد الرزاق 13443].

♦ العاشرة: النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم:

لا يكون العالم ربانيًا إلاَّ إذا كان ناصحًا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامّتهم، صادعًا بالحق قوالًا به، لا تأخذه في الله لومة لائم، عملًا بقوله صلى الله عليه و سلم: «الدين النصيحة»، ثلاثاً، قلنا: لمن؟، قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»[مسلم 55] ، ولقوله صلى الله عليه و سلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»[مسلم 49].

♦ الحادية عشرة: العمل والسعي على تزكية النفس:

الفلاح هو النجاح والفوز في الدنيا والآخرة، ولهذا وصف الله عزّ وجلّ المزكّين لأنفسهم المطهرين لها من الرذائل والمناقص بالفلاح، قائلًا: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}[الشمس:9]، وقال صلى الله عليه و سلم : «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني»[الترمذي 2461] فالعالم الرباني هو الذي يهمه ويعنيه شأن نفسه، ويسعى لكل ما فيه إصلاحها، ولا يشتغل بالفضوليات، وعيوب الناس عن عيب نفسه: «من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه»[الترمذي 2318].

ومما يروى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ ، يَوْمَ تُعْرَضُونَ لَا يَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ . ” [مصنف ابن أبي شيبة 35600]

♦ الثانية عشرة: تجنب المراء، والجدل، والخصومات ونحوها:

المراء والجدل لا يأتيان بخير أبدًا، ولهذا نهى الشارع عنهما لما يسببانه من الخصومات، وتوغير الصدور، وتوريث الإحَن.

و صحَّ عنه صلى الله عليه و سلم أنّه قال: « أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ »[أبو داود 4800 والبيهقي 21237 والطبراني 7488] هذا النهي عن المراء والجدل وإنْ كان المرء محقًّا، فكيف بالمراء والجدل بغير حقّ؟! لا شكّ، هو أشدّ حُرمة وأقبح ذنبًا.

فالواجب على العالم بيان الحقّ، فإنْ قُبل منه ذلك فبها، وإلاَّ عليه ألاَّ يجادل ويماري وإنْ كان محقًا،.

 

اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.