سلسلة شعب إيمانية | الرجاء ج1 | المقالة الثالثة والعشرون | د. محمد فايز عوض

 

          الحمد لله ذي الفضل والإنعام، توعد من عصاه بأليم الانتقام، ووعد من أطاعه بجزيل الثواب والإكرام، فقال ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 78]، والصلاة و السلام على سيدنا محمد عبده ورسوله حث على فعل الطاعات وحذر من المعاصي والآثام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليماً كثيراً ومستمراً على الدوام…

          الإنسان المسلم الواعي الفاهم لدينه، يعيش حياة الوسطية والتوازن والاعتدال في كل أموره حتى في سلوكه وعبادته وصلته بربه عز وجل، يمتلئ قلبه حباً لخالقه ورغبة فيما عنده وخوفاً من غضبه وأليم عقابه، وتسلك نفسه طريقاً معتدلاً بين الخوف والرجاء، فلا يظل في خوف دائم فتبقى حياته قلقة ونفسه بائسة يائسة، ولا في رجاء أبداً فيكون منه التفريط، ولكنه بين الخوف والرجاء، بين الرغبة والرهبة وهذا في الحقيقة منهج الأنبياء جميعاً، قال الله عز وجل : ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ۞ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 89- 90]

  • وقد تكلمنا عن الخوف ونتبع الحديث بعده بالكلام عن الرجاء؟

          الرجاء: هو تعلق القلب بحصول شيء محبوب في المستقبل.
          وقيل: هو الاستبشار بجود الله وفضله، والطمع في إحسانه وعطائه، مع بذل الجهد وحسن التوكل.

  • الفرق بين الرجاء والتمنِّي:
    الرجاء: يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل.
    التمني: يكون مع الكسل وترك العمل.

          فمَن بذل الأسباب بفعل الطاعات وترك المحرَّمات، منتظرًا لرحمة الله تعالى وجوده وكرمه وإحسانه، فهذا هو الراجي،
أما مَن انتظر شيئًا بدون بذل الأسباب، فلا يسمى راجيًا بل متمنيًا.
قال تعالى ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 123].

          فليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل؛ قال تعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 11].
قال «الكيِّس مَن دان نفسه وعمِل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني»؛ حديث حسن، سنن الترمذي 249.

  • أنواع الرجاء
              1- رجاء طبيعي: هو رجاء المخلوق فيما يقدر عليه؛ مثل قولك لإنسان: أرجوك أن تفعل كذا، أو ترجوه أن يعطيك مالًا، أو يعينك على القيام بعمل معين.
    حكمه: هذا النوع ليس داخلًا في العبادة، فهو جائز. بشرط ألا يعلق قلبه بهذا المخلوق،
              2- رجاء عبادة: هو رجاء ما لا يقدر عليه إلا اللهُ عز وجل؛ كالمغفرة و الرزق الواسع و دخول  الجنة.  فهذا النوع لا يمكن أن يرجى إلا من الله، وهذا هو رجاء العبادة.
    حكمه: لا يجوز صرفه لغير الله.
                         ثم رجاء العبادة على أقسام:
                        الأول: رجاء الرجل العامل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه.
                         الثاني: رجاء رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه فهو راج لمغفرة الله وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.
                         الثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والرجاء الكاذب.

  • منزلة الرجاء:
              الرجاء عبادةٌ قلبية من أعظم العبادات، وعليه وعلى الحب والخوف مدارُ السَّير إلى الله تعالى؛ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57]، فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحب، والخوف، والرجاء.
    وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِن الظنَّ بربه».
              وفي الصحيح عنه ﷺ: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء».


  • الدليل على أن الرجاء عبادة:
              أن الله مدح أهله وجعله صفة لعباده المؤمنين، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
    فمَن كان يرجو ثواب الله ولقاءه، ورؤيته في الجنة والنظر إلى وجهه، فليعمل عملًا صالحًا، وهو ما كان موافقًا للشرع ومقصودًا به وجه الله، إذا امتدح مَن قام بالرجاء فترتب عليه العمل الصالح، وهذا العمل الصالح ثمرته الجنة، فدلَّ على أن هذا الرجاء ممدوحٌ، فهو مرضيٌّ، فيصدق عليه حينئذٍ حد العبادة،
              وكل مسلم محتاج إلى الرجاء: لأن المسلم يدور بين ذنب يرجو غفرانه، وعيبٍ يرجو إصلاحه، وعملٍ صالح يرجو قبوله، واستقامةٍ يرجو حصولها وثباتها، وقربٍ من الله يرجو الوصول إليه.
    لذلك كان الرجاء من أهم الأسباب التي تعين المرء على السير إلى ربه، والثبات على دينه.

  • ثمرات الرجاء:
    1) الرجاء يُورث العبد فعلَ الطاعات والمواظبة عليها، ويبعثه على الاجتهاد في العبادة، بل يولِّد عنده اللذَّة بالعبادة، ولو كانت شاقةً وصعبة على نفسه، فيتلذذ بها؛ لأنه عرَف الأجر ورغب فيه.
    كان أحد السلف يقول: “كابدتُ قيام الليل عشرين سنة، ثم تنعَّمت به عشرين سنة”.

    2) الرجاء يُشعر العبد بالإقبال على الله، والتعلق به، والتنعم بمناجاته، فإذا تعلق القلب بالله ورجائه، فأعطاه الله ما رجاه، حصل مزيد تعلق وإقبال على الله، ومزيد تشجع وسؤال، فلا يزال العبد في ازدياد في الإيمان.
    3) إظهار العبودية من قِبل العبد والحاجة والافتقار إلى الرب سبحانه.
    4) أن الله يحب مِن عباده أن يسألوه ويرجوه، ومَن لا يسأل الله يغضب عليه، فمن ثمرات الرجاء التخلصُ من غضب الله.
    5) الرجاء يحدو بالعبد في سيره إلى الله، فيحثه على السير، ويطيب مسيره، فلولا الرجاء ما سار أحد.
    6) الرجاء سببٌ من أسباب زيادة محبة الله عز وجل في قلب العبد، فكلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه، ازداد حبًّا لربه ورضا عنه.
    7) الرجاء يبعث العبد على مقام الشكر.
    8) الرجاء يُوجب المزيد من التعرُّف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لأن الراجي متعلقٌ بأسماء الله؛ ومنها: التواب، الرحيم، الغفور…
    9) الرجاء فيه انتظارٌ وترقب لفضل الله عز وجل، فيتعلق القلب أكثر بخالقه في كل أحواله.
    10) على قدر رجاء العباد وخوفهم يكون فرحهم يوم القيامة بحصول المرجو الأعظم، وهو نَيل رضا الله والجنة ورؤية الله عز وجل فيها.          عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبَّيك ربنا وسَعْديك، والخير في يدَيْك، فيقول: هل رضيتُم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى وقد أعطيتَنا ما لم تعطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول: أفلا أعطيكم أفضلَ من ذلك؟ قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك يا رب؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا»؛ رواه البخاري ومسلم.

    عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهَنا، ألم تُدخلنا الجنة، وتُنجِنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم مِن النظر إلى ربهم عز وجل، ثم تلا هذه الآية: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]»؛ رواه مسلم، والترمذي، والنسائي.

  • كيف نحقق الرجاء؟
    1)
    ذكر سوابق فضلِ الله علينا جميعًا في خلقنا، وتسخير ما في الكون لنا، وهدايتنا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وسائر نعمه علينا في الدين والدنيا، بدون استحقاق منا.
    2) ذكر نعم الله علينا في الحال (الآن) من غير سؤال منا.
    3) ذكر وعد الله تعالى من جزيل ثوابه، وعظيم كرمه وجوده لمن استقام، وآيات الوعد كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122].
    4) ذكر سَعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، وهو الرحمن الرحيم، الرؤوف بعباده المؤمنين، ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 12].
    5) أن الله عز وجل فتح باب الرجاء لعباده في مغفرةِ أي ذنب، فقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].          وفي الحديث القدسي: «يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرة»؛ سنن الترمذي.

♦ ومن أحاديث الرجاء أيضًا قوله ﷺ: «إن الله عز وجل يُدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه، يستره من الناس، فيقول: أيْ عبدي، تعرفُ ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم، أيْ رب، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: إني قد سترتُها عليك في الدنيا، وقد غفرتُها لك اليوم»؛ صحيح ابن خزيمة.