سلسلة شعب إيمانية | التوكّل  ج1 | المقالة الخامسة والعشرون | د. محمد فايز عوض

التوكّل  ج1

حقيقته و شواهده


          إن الحياة الدنيا معركة محتدمة يتعارك فيها الحق والباطل، والإيمان والكفر، والمحبوب والمكروه، والرخاء والشدة، والآمال والآلام.
والإنسان هو الذي تدور عليه رحاها، فإما أن ينتصر وينال مطلوبه، وإما أن ينهزم فتقيم ببابه المكاره.
وليس للإنسان من قوة يحصل بها كل ما يحب، ويدفع بها كل ما يكره، فالإنسان ضعيف القوى، كثير العجز، فلابد له إذن من قوة تعضده، وقدرة تسنده، حتى ينال المحبوبات، ويسلم بذلك من المكروهات.

          فمن كان معرضًا عن ربه إما بكفره وإما بفسوقه فإنه يرى قوته وقدرته بما يمتلك من القوى البشرية الحسية والمعنوية، ويعتقد أنها سبيله الوحيد إلى نيل ما يريد، ومن كان حاله كذلك فمآله إلى الضعف والعجز والهزيمة والندم.

إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأول ما يقضي عليه اجتهاده

          أما من كان من عباد الله الصالحين ومن أهل الإيمان المتين فإنه ليرى أن قوته بقوة تعلقه بالله، وكثرة اعتماده على ربه ومولاه، فالله -عز وجل- هو القوي ولا أحد أقوى من الله، والله -تعالى- هو القادر ولا أحد أقدر من الله، فالمؤمن يظل قلبه معتمداً اعتماداً كليًا في جميع أحواله الدينية والدنيوية على الله القوي القادر، وهذا هو التوكل على الله -تبارك وتعالى- الحي الذي لا يموت، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58].

          والتوَكُّل عمَل قلبي من أجَلِّ أعمال القلوب، وشُعبةٌ من شُعَب الإيمان، يرْتكِز على معْرفةٍ بالله عزَّ وجلَّ الذي لا ربَّ سواه، ولا إله غيره، وإيمانٍ بقدرة الله عزَّ وجل الذي له مُلك كلِّ شيء، يُدَبِّر الأمور بحكمته، وهو على كلِّ شيء قدير، وإيمانٍ بفَضْل الله ورحمته وإنعامه على عبْده. ومن سمات المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]، وقال تعالى: ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: 36] وقال: ﴿وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122، 160/ المائدة: 11/ التوب: 52/ إبراهيم: 11، 12/ المجادلة: 10/ التغابن: 13]

          ولهذا؛ فعلى قدْر يقين العبْد بتوحيد الرب وقُدرته ورحمته، يكون توكلُه على ربِّه، ويظهر ذلك جَليًّا في فَهْمه لكلمة التوحيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمْد، وهو على كلِّ شيء قدير.

 

  • فما هو التوكل؟
              هو في اللغة الاعتماد على الغير في أمر ما.
              واصطلاحاً: صدق اعتماد القلب على اللّه تعالى في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة [العلوم والحكم لابن رجب (409)].
              وقال الجرجاني رحمه الله: التوكل هو الثقة بما عند اللّه، واليأس عما في أيدي الناس [التعريفات (74)].

  • الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل:
              بل هو من تمامه وكماله لكن الحذر من ركون القلب إلى الأسباب فهذا الذي ينافى التوكل لذا قيل: “السعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله والتوكل بالقلب على الله إيمان بالله”.
    قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60].
    وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 10].
    وقال تعالى لمريم عليها السلام:﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] وهي الضعيفة الواضعة النفساء، والنخلة لا تُهز وإن هُزّت لا يسقط ثمرها لكن أراد الله تعالى أن يعلمنا أن الأخذ بالسبب ولو كان ضعيفاً دون أن يُتَعَلَقَ به صاحبه تكون وراءه النتيجة المثمرة.

توكل على الرحمن في كل حاجة

ولا تؤثرنّ العجز يوماً على الطلبْ
ألم تر أن الله قال لمريمٍ
إليك فهزي الجزع يسَّاقطُ الرط
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه
جنته ولكن كل شيء له سب

والله تعالى قال لنبيه: ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: 62]، ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67] إلا أنه حين هجرته أخذ دليلاً لتعمية الأثر وخرج في وقت يغفل فيه الناس ومن طريق غير متوقع كل هذا أخذاً بالأسباب.

  • نماذج من توكل الأنبياء عليهم السلام والصالحين:
              1.
    لما مر ركب برسول الله ﷺ وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي بأن أبا سفيان جمع لهم، وذلك بعيد أحد- قالوا : ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ ـ أي زاد المسلمين قولهم ذلك ـ ﴿إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۞ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173- 174].

          وقد ثبت في صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال :«“حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ قَالُوا: “إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”».

          2. عن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ –شجر شوك- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ –شجرة الطلح- فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، فَنِمْنَا نَوْمَةً ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» [البخاري ومسلم].

          3. قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: «إَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ :«يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» [البخاري ومسلم].

وفي ذلك يقول ربنا:﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40]

          4. ولما لحق سراقة بن مالك بالنبي بشّره بسواري كسرى وهو مطارد، قال له :«كَأَنِّى بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سِوَارَىْ كِسْرَى» [سنن البيهقي].
فأي ثقة هذه التي امتلأ بها قلب رسول الله !

          5. قال تعالى عن هود عليه السلام: ﴿قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ۞ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۞ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ۞ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 53- 56] فكيدوني جميعا لا يتخلف منكم أحد.

          6. قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [يونس: 71]
ومعنى الآية: أعدُّوا أمركم، وادعوا شركاءكم، ثم لا تجعلوا أمركم عليكم مستترًا بل ظاهرًا منكشفًا، ثم اقضوا عليَّ بالعقوبة والسوء الذي في إمكانكم، ولا تمهلوني ساعة من نهار.

          7. قال الله تعالى عن يعقوب عليه السلام: ﴿قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ ۞ وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف: 66- 67]

          8. قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ۞ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ۞ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ۞ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ۞ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۞ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ۞ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۞ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ۞ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ۞ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 53- 62]
البحر أمامه، وفرعون خلفه، والجبال الشاهقة ترى عن يمينه وشماله، ومع ذلك : ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]

          9. وقال عن مؤمن آل فرعون: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۞ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ۞ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 44- 46] أي: ” ألجأ إليه وأعتصم، وألقي أموري كلها لديه، وأتوكل عليه في مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم”.

          10. ولما فوَّضت أم موسى أمرها إلى الله حفظ ابنها ورده إليها، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ۞ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ [القصص: 7- 8]

  • الأخذ بالأسباب، والتوكل:
              الأخذ بالأسباب لا ينافي حسن التوكُّل، بل هو مِن الدِّين.
    فمَن ترك الأخذ بالأسباب فقد طعَن في حكمة الله تعالى؛ لأن حكمةَ الله عز وجل اقتضت رَبْطَ الأسباب بالمسببات؛ كمَن يعتمد على الله في حصوله على الولد وهو لا يتزوَّج.

          فالأخذ بالأسباب هو جزءٌ ممَّا تحصل به حقيقة التوكُّل؛ فمَن عطلها لم يصح توكله، والأنبياء جميعًا أخذوا بالأسباب، والنبي محمد أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب، فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أُحُدٍ ظاهَر بين دِرعينِ، ولما خرج مهاجرًا أخذ مَن يدلُّه على الطريق.

          قال ابن رجب رحمه الله: (واعلم أن تحقيق التوكُّل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدوراتِ بها، وجرَتْ سنته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمَر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكُّل. فالسعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكُّل بالقلب عليه إيمانٌ به)؛ اهـ

          قال ابن القيم رحمه الله: (سرُّ التوكُّل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضرُّه مباشرة الأسباب مع خلوِّ القلب من الاعتماد عليها والركون إليها)؛ اهـ (مدارج السالكين 2/ 112).

الناس في قضية الأسباب:
1) مَن ترك الأسباب كلية وزعم أن التوكُّل لا يتم إلا بتركِ الأسباب، وهؤلاء لا يستقيم لهم توكُّل.
2) على النقيض مِن هؤلاء مَن اعتمد على الأسباب وتعلق بها، واعتقد أنه طالما فعل السبب فلا بد مِن أن يحصل المطلوبُ.
وقد ذكَر لنا القرآن نموذجًا من الاعتماد على الأسباب الظاهرة، وأنها لا تحقِّق النتائج وحدها؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: 25].
والصحيح أن السببَ وحده لا يحصِّل المقصود، وإنما قد يحصل المراد به وقد لا يحصل، فإذا شاء الله لهذا السبب أن يكون مؤثرًا كان السبب مؤثرًا منتجًا للمطلوب، وإذا لم يشأ اللهُ ذلك كان السبب غيرَ مؤثر.
إذن فعل السبب ليس كافيًا.

مثال: الدواء سببٌ في حصول الشفاء، وقد أمَرنا النبي به، ولكن ليس الدواءُ وحده الذي يحصل به الشفاء، وإنما لا بد مِن أشياء أخرى، منها: أن يكون المحلُّ – وهو داخل الإنسان – صالحًا لقَبول الدواء، وألا يكون في البدن شيء يُفسِد هذا الدواء ويُعارضه فيجعله لا يعمل.
فالدواء ليس هو الذي يَشفي، وإنما الشفاء بيد الله؛ فالمؤمن الموحِّد يعتقد أن السبب وسيلةٌ لتحقيق المراد، وفي النهاية قد يحصل وقد لا يحصل، بحسَب ما قدره الله؛ «… ما أصابك لم يكن ليُخطِئَك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبَك…».

فالتوكُّل والاعتماد على السبب وحده، وكذلك عدمُ الأخذ بالأسباب مطلقًا – كِلا الأمرينِ مذمومٌ، وينافي حقيقةَ التوكُّل.
لذلك كان أصحابُ المذهب الوسط بين طرفي النقيض هم الذين أصابوا وفازوا.

3) مَن يأخذ بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها، بل يكون اعتمادُه على الله.
فقد بذل الأسباب بجوارحه، وتوكل على الله بقلبه، وراعى سنَّة الله في خَلْقه، وأحكامَه في شرعه، موقنًا أن الله تعالى هو الذي وضَع الأسباب وأمر باتخاذها، ورتب عليها آثارًا قدرًا وشرعًا، وهو في الوقت نفسه قادر على أن يعطلها إن شاء، وأن يخلق مِن الموانع ما يعُوق سيرها، أو يُبطل أثرها.

♦الاعتقاد في الأسباب والاعتماد عليها شركٌ وطعن في توحيد العبد، وترك الأخذ بالأسباب طعن في الشرع والعقل.
♦ والأخذ بالأسباب ليس فقط في الأمور الدنيوية، ولكن أيضًا في أمور الآخرة؛ فعلى المسلم أن يأخذ بالأسباب التي توصله إلى رضا الله والجنة؛ قال : «اعملوا، فإن كلًّا ميسَّرٌ لِما خُلق له».

 

لنتوكل على الله توكلاً صادقًا صحيحًا في جميع شؤون حياتنا؛ فإن المتوكل على الله أسعد الناس، وأحراهم بنيل ما يرجو، والأمان مما يخاف، وتذكروا قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 3].