سلسلة شرح كتاب أيها الولد للإمام الغزالي (٣) يشرحه الحبيب الحسين السقاف

يواصل الحبيب الحسين السقاف مدرس العلوم الشرعية شرحه لرسالة الإمام الغزالي أيها الولد، وكلامه في هذا الشرح ينطوي على أهمية الأعمال الصالحة للمريد، وانقسام الأعمال إلى أعمال جوارح وأعمال القلوب، وكيف يقوم العبد بحق العبودية لله، وكيف أن الحياة تطيب وتزكو بهذه الأعمال الصالحة، وطرق التوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أيها الولد: لا تكن من الأعمال مفلساً، ولا من الأحوال خالياً، وتيقن أن العلم المجرد لا يؤخذ باليد.

هذه من بداية التوجيهات والتوصيات التي وصى بها الإمام تلميذه النجيب.

لقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته عن المفلس فأجابوه: بأنه من لا درهم له ولا دينار، فصحّح لهم أفكارهم ونقلهم إلى الهداية التامة وأخبرهم بأن المفلس يوم القيامة من يأتي بصلاة وزكاة وصيام وحج ونافلة، ثم تفتح صحائفه فتجده قد اغتاب هذا وسفك دم هذا وهضم حق هذا واعتدى على هذا، فأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته حتى استنفذت، وما قضيت الحقوق فجعل الملائكة يطرحون عليه من أوزار أصحاب الحقوق ثم طرح في النار. ذهبت أعمال ذلك المفلس ولو كان له أعمال ثابتة يبقى أثرها بعد موته لانفتح له باب رجاء إذ كل عمل ينقطع بالموت لا ينفع، فالعمل يجب أن يتوجه لما بعد الموت؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني).

ضع نفسك دائماً موضع التهمة؛ حاسبها ولُمها وعاقبها وإياك أن ترخي لها القياد، فإنك إن فعلت جمحت بك إلى دروب الهوى واستعصت على الانقياد والأعمال التي تبقى لما بعد الموت هي التي يشقّ على النفس فعلها في الدنيا، فكلما ثقل عمل نفسك فاعلم أنك ستجده يوم القيامة عظيماً وكبيراً، فالله تعالى يتعاهد هذا العمل الخالص لوجهه فيربيه وينمّيه كما يربي أحدنا مُهره، حتى تصبح الحبة من القمح مثل جبل أحد هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لا تكن من الأعمال مفلساً ولا من الأحوال خالياً.

والأعمال تنقسم إلى أعمال جوارح وأعمال قلوب، كلاهما حين يتحدان يثمران حالة إيمانية أقرب إلى السكينة وصفاءً يخالط النفس الجافية فيهذبها ويطفئ حدتها، فترق وتلين وتأنس وتحلق مع الروح التي تنشط حين تخف وطأة النفس عليها فتحلقان في سديم علويّ منسجم ليس فيه صخب ولا سغب ولا عُقد ولا مشكلات.

وتصبح الحياة عند ذلك الإنسان مجرد جسر متين يعبره بثقة نحو الآخرة التي تنسّم بعض حلاوتها في تلك الأحوال التي أنعم بها الله عليه في دنياه.

يلحّ الغزالي على تلميذه أن لا تخلو أعماله من أحوال ترفد عزيمته وتمدّه بمعان من الإيمان العميق تطيب عندها الحياة وتزكو ويتعزز بها الإقبال على الله عز وجل، والتماس الأعمال التي ترضيه من صلاة وصدقة وتكافل وقولة حق وذكر وقرآن ودعوة إلى الله بالتي هي أحسن، هذه كلها أعمال جوارح وقد تنفرد أعمال القلوب عن أعمال الجوارح وقد تشاركها وتخالطها. فالإخلاص والتواضع ومحبة الله ورسوله ومحبة المسلمين والزهد في الدنيا وحسن الظن بالله والتنزه عن الحق والحسد والضغينة والنفاق والرياء والغش. لا ينفي عنك ذلك إلا قيام بحق العبودية لله عز وجلّ وسلوك عند رب خبير يخلصك من تلك العلل بحاله وقاله ثم يستنبت في قلبك خصال الكمال فيجعله مهبطاً لواردات الخير والبشائر وموئلاً للطيبات الصالحات من النيات والعقائد إلى أن يدخلك عالم المعرفة الحقيقة ثم يقول لك: (ها أنت وربّك) (عرفت فالزم … عرفت فالزم).

قم بحق العبودية لله سبحانه وضمّ عمل القلب إلى عمل الظاهر تنضج لك ثمرة عملك وترى أثر ذلك في عبادتك ويتغيّر (الحال) الذي أنت فيه فيصبح مقاماً تنتقل به إلى مقام ثان فثالث فرابع. مقام العبودية يرتقي بك إلى مقام المراقبة إلى مقام الإخلاص إلى مقام الشوق إلى مقام المحبة إلى مقام الرضا. الأعمال ترفدك بأحوال والأحوال توصلك إلى مقامات والمقامات تنتهي بك إلى تسليم كامل لله عز وجل وشهود أن لا فاعل ولا محرّك في هذا الوجود إلا الله عز وجلّ، عندها تكون قد وصلت إلى الإيمان الكامل الذي قال فيه سيدنا عليّ رضي الله عنه (لو كشف القناع ما ازددت يقيناً..

اجعل من أورادك (حسبنا الله ونعم الوكيل) فإن ذكرت الله بها مع الشروط الواجب توفرها من إخلاص ومداومة واتباع لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن صدقت في ذلك كله شملك حال الذكر فتشهد أنه ما في الوجود من شيء إلا وهو في نظر الله عز وجل، فتحسّ بالسكون، هذا السكون هو بداية حال الطمأنينة والركون إلى الله عز وجلّ، وتجدك لا تتأثر بالمتغيرات واضطرابات الاقتصاد العالمي بعكس ما يشعر به غيرك من قلق وتذبذب وخوف.

من يكثر من (حسبنا الله ونعم الوكيل) يحصل له الأنس، فإن تمّ له ذلك ازداد طمأنينة وتسليماً وتفويضاً، عندها يدخل في مقام التوكل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * {:{آا يدخل في مقام التوكليضاً..فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}[آل عمران: ۱٧۳]، ثم يرتقي في مقام التوكل كلما ازداد ذكر الجوارح وازداد الإخلاص في القلب، يترقى من توكل إلى تسليم إلى تفويض {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر، ٤٤]، إلى فناء في الله عز وجل إلى انطواء في الله عز وجل، وهذا كله في مقام التوكل. هذه المعاني تفهم ذوقاً بالروح والسائر إلى الله عز وجل تنفتح له المعاني فتحاً ولا يمكن شرحها لمن لم يذقها، فهي لا تعرف إلا بالذوق، فلو أنفقتُ دهراً وأنا أشرح لك طعم البقلاوة لن تستطيع معرفة طعمها ما لم تذقها، أختصر لك مجلدات كثيرة إن قدمت لك قطعة صغيرة منها وقلت لك: ذق، وهكذا يفعل المربّون الكبار يقدمون لتلاميذهم بادئ الأمر قطعة صغيرة من (طيّب ذواقهم) حتى إذا هام وسكر وانجذب قالوا له: لم يبق لك شيء مجاني، اعمل واكدح وجاهد لتكسب ذلك الذواق.

ووصف لنا ربنا تعالى الجنة وسمى لنا بعض النعيم فيها إلا أنه أخبرنا: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). نتخيل الحقيقة ولا يمكن أن نتصورها، حتى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يعتبر وصفاً كاملاً (جامعاً مانعاً) لأنه في حقيقته أعظم ويوم القيامة سيكشف لنا الحجاب، فنرى مالم يخطر على قلب بش..

ولكن قد نتوصل إلى الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق:

  • رؤيته في المنام
  • عن طريق وجود سرّه في ورثته من العلماء وأهل بيته
  • بالاتصال بذلك النور المودع في تركته صلى الله عليه وعلى آله: آدابه، سنته، أخلاقه، معاملاته، وكلما عملت بسنة أو بأدب أو بخلق أخذت نوراً من أنواره واتصلت به صلى الله عليه وسلم.

ولعلك تلتمس صلة في مدينة عاش فيها وسار في دروبها وطرقاتها، خلف فيها حجرات ومسجداً ومنبراً وروضة ثم ضمت جسده الطاهر، في طوافك بتلك البقاع تحسّ بروحانيته صلى الله عليه وسلم.

وتجد شيئاً من صلة أيضاً فيما ترك من ممتلكات بسيطة، عباءة وسيف ودرع وقميص وعمامة ونعال وعصا وخاتم، وقلامة أظفار وأشعار تتناقلها الأجيال وما يزال فيها ذلك الألق وتلك الروحانية العالية لسيّد العالمين والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.