سلسلة شرح كتاب أيها الولد للإمام الغزالي (٢) يشرحه الحبيب الحسين السقاف

يواصل الحبيب الداعية الحسين السقاف مدرس العلوم الشرعية شرحه لرسالة الإمام الغزالي “أيها الولد،” ويتناول في هذا الجزء من الشرح الكلام عن تخصيص وقت لطلب للعلم، وبيان كيفية الطلب المرجو منه النفع، والحديث عن المقصود الأسمى لطلب العلم، ومظان قبول العبد عند ربه.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال الإمام الغزالي وهو ينصح مريده: “أيها الولد كم من ليال أحييتها بتكرار العلم، ومطالعة الكتب، وحرّمت على نفسك النوم.. لا أعلم ما كان الباعث فيه؟ إن كان نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها، والمباهاة على الأقران والأمثال، فويلٌ لك ثم ويلٌ لك!”

هذا هو الغزالي كما عهدنا طريقته، يخاطب المريض أو المريد أو التلميذ واضعاً يده على موطن الداء ليختصر المسافة ويصل إلى الهدف بسرعة؛ وهنا إشارة إلى أن طالب العلم ينبغي له أن يخصص وقتاً لمن ليله لمدارسة العلم فمدارسة العلم تسبيح، ولأن يعود أحدنا إلى بيته بعد حضوره محاضرة علمية أو درساً شرعياً فيمضي ساعة في بيته يراجع ما استمع إليه وما دوّنه في كراسته ذلك ذكرٌ وتسبيح، فخصّص من ليلك ساعة تتدارس فيها علماً كما تجعل فيه صلاة وقراءة قرآن؛ بمدارسة العلم تحيا الأمم على حسن تقتصر العبادات الأخرى على صاحبها بالنفع، وبذلك كان العلماء ورثة الأنبياء.

كذلك الطالب عندما يرجع إلى بيته فيراجع ما ألقي عليه من دروس يكسب فوائد ثلاثة:

  • يعتبر ممن تدارس العلم فيحصل أجر إحياء ليلته بمدارسة العلم.
  • ‌ويحصّل أيضاً ثواب العمل بالعلم لأنه حين يناقش مسألة علمية ويضع خطة لما يجب عمله وما يجب تجنبه إنما يعمل بعلمه وينال ثواب ذلك.
  • بكتابته لمسائل العلم وتدوينها في كراسة خاصة يؤدي دور ناشر العلم إذ لو مات مخلفاً هذه الكراسة سينتفع بها من يأتي بعده. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث…) وذكر منها (أو علم ينتفع به)؛ هذا الدرس الذي تكتبه يعتبر من العلم الذي ينتفع به لأنه قد يستفيد منه ولدك أو حفيدك أو زوجتك وبناتك، يقرؤون ما دوّنت فتكتب في الناشرين العلم.

وعلى عادة الأب الحازم والمعلم الصارم يستطرد الغزالي متسائلاً: “وحرّمت على نفسك النوم؟! لا أعلم ما كان الباعث فيه؟ إن كان نيل عرض الدنيا وجذب حطامها وتحصيل مناصبها، والمباهاة على الأقران والأمثال فويل لك ثم ويل لك”.

تلك دعوة الغزالي رحمه الله إلى تحرير النية وإخلاص العمل.. ينبه طالب العلم لعله في غيابة عن أمره، هل تطلب مرضاة الله في سهرك ذاك؟ أم تطلب مزاحمة أهل المناصب في مناصبهم حتى إذا قرعت بابهم قبلوك؟ هل تريد الزواج من ابنتهم؟ أم تبتغي لك محلة في قلوبهم فينالك قسم من أموالهم أو يغمرك نعيمهم؟ ويل لك وألف ويل. حذار أن يأتيك الناس يلتمسون منك الآخرة فتطلب منهم الدنيا. فيعرض ربك عنك لأنك بعت آخرتك بدنيا زائلة، وكذب عملك قولك، تدعو الناس إلى إخراج حبّ الدنيا من قلوبهم وتهفو عيناك إلى ما بأيديهم من دنيا.

أما إذا كنت تجمع مسائل الفقه وتمعن في حفظ الغرائب والمشكلات لتبرز في المحافل وتتصور المجالس وتشير إليك الأصابع بأنك الحافظ الجامع الذي لا يقف أمامه أحد ولا يجاريه أحد، وتنهال عليك المدائح ويتردد اسمك في الشرق والغرب، فهل ظفرت؟ هل نلت ما تبغي؟ لا والله فجهنم توقد بعالم ومنفق وشهيد، يُسأل أحدهم لماذا فعلت ما فعلت، فالعالم يقول: يا ربّ تعلمت العلم وعلمته أبتغي وجهك فيُقال له: كذبت لقد تعلمت ليقال: عالم وقد قيل (خذوه فألقوه في سواء الجحيم) وكذلك يفعل المنفق والشهيد – لقد أرادوا بفعلهم الشهرة والرياء – ظفروا بحمد الناس وأخطأهم رضا الله عنهم وقبوله عملهم لأنه لم يكن خالصا لوجهه الكريم.

أما إذا كنت تجد وتجتهد وتتفوق في جمع العولم تريد الانتفاع بما في عبادتك وعملك، ثم تنقل تلك المعرفة إلى غيرك من المسلمين فتلك هي وراثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا انتشر الإسلام وعلى هذه النقطة يرمز الإمام الغزالي الاهتمام: “إن كان قصدك فيه (أي في طلب العلم) إحياء شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وتهذيب أخلاقك، وكسر النفس الأمارة بالسوء فطوبى لك، ثم طوبى لكـم، ولقد صدق الشاعر حين قال: سهر العيون لغير وجهك ضائع وبكاؤهن لغير فقدك باطل

إنه – جزاه الله خيراً – يعلمنا نيات طلب العلم أو إحياء الليل في طلب العلم، إذ علينا أولاً أن ننوي إحياء شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما كيف يتم إحياء تلك الشريعة فبإحياء كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما أتناول مسألة أنوي بها إحياء سنة رسول الله أكون نائباً لرسول الله في هداية الأمة مما يقربني إلى حضرة رسول الله وإلى ذاته الشريفة.

والنية الثانية: هي أن ننوي بها تهذيب أخلاقنا، وبخاصة أخلاقيات القلوب وأخلاقيات التعامل مع الحق سبحانه وتعالى، وأخلاقيات التعامل مع الحبيب صلى الله عليه وسلم وأخلاقيات التعامل مع الناس. نقص تلك الأخلاقيات سبب رئيس لحجاب يقوم بين العبد وربه أو بين قارئ القرآن وبين فهمه أو فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لابد أن أدقق النظر فيما أنا فيه، أبحث عما ينقصحني وأنظر في العلة التي تخيم في قلبي، وأبحث عن طبيب ذي خبرة وتجربة (سلك الطريق ثم عاد ليخبر القوم بما استفاد) ألزمه وأتبع مشورته ونصحه وإن كان فيها ما يؤلم، لأن أنفع الدواء المرّ، ولا تدع للشيطان ثغرة بينك وبينه، فإنه سيحرص على أن يوقع بينكما، اتخذه مرآة لك تصقل عليها طباعك وتحكم تصرفاتك فقد تكون غارقاً في مرض عضال وأنت لا تدري، إن قال لك: (أنت مريض) فتقبل ذلك منه واطلب العلاج بسرعة خشية أن يسبقك الأجل ويختطفك الموت فتلقى الله بقلب مريض فلا ينفعك مال ولا بنون ولا قلب.

يقولون: (إن نصف العلاج بيد المريض) فإن كانت معنويات المريض عالية وهمته سامية يؤمن بأن الشفاء من عند الله تعالى {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء: ٨۰]، ويؤمن بأن طبيبه ماهر مدرّب مجرّب مجاز من جامعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزميل لكلية أطباء القلوب تأتيه منها آخر الأبحاث والتجارب ويتواصل معه أساطين ذلك العلم المتوارث شيخاً عن شيخ إلى رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله. إذا رسخ لديه هذا الاعتقاد فإن شفاءه سهل لأنه جمع علماً إلى تجربة، أما إذا لم يكن مؤمناً بطبيبه فأنصحه أن لا يعذب نفسه، فالإنسان يعطى على قدر ما يطلب والطبيب لن يجدي علمه شيئاً مادام مريضه غير مقتنع به.

والنية الثالثة أن يبقى في حالة تواضع وفقر علمي يسأل الله تعالى أن يزيد في علمه {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ۱۱٤]، ومتابعة التفكير في الأمور يورث الرويّة والحكمة الاتقان.

الإمام الشافعي رحمه الله يعتبر من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل، هذا الأستاذ زار تلميذه مرة فأصرّ التلميذ على استضافة شيخه وأمر ابنته أن تعد لهما عشاء ففعلت، ثم ذهبت لتنظر إلى الإمام الشافعي وهو يأكل تريد أن تتعلم منه أيضاً، فرأت الإمام يأكل بنهم وإفراط وهو أمرٌ مستهجن من مسلم عادي فما بالك من مثل الإمام الشافعي، ثم رأته يتكئ بعد العشاء ويخلد إلى النوم على حين قام أبوها إلى قيام الليل حتى انبلج الصباح؛ فذكرت لأبيها ما رأت من الإمام الشافعي فأذن لها أن تسأل الإمام الشافعي عن ذلك؛ فسألته بأدب: لقد رأيت منك عجباً يا سيدي الإمام. تبسّم الإمام لها وقال: ما رأيت يا بنية؟ قالت: رأيتك تأكل فتفرط ورسول الله ما شبع من طعام قط، ثم إنك بعد الطعام اتكأت ثم نمت ما قمت من ليل ولا في سحر. أعجب الإمام بفطنة الفتاة وأجابها: يا بنية، لقد علمت أن أباك لا يدخل إلى بيته إلا الحلال الطيب، ولقد أحببت أن أكثر من أكل الحلال لأستعين به على طاعة الله، أما ما رأيت من اضطجاعي ونومي فلقد كنت أفكر في مسألة أخدم بها المسلمين حتى طلع الفجر، تلك المسألة كانت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخي انس بن مالك حين وجده يبكي لأن عصفوره طار من يده مخلفاً ساقه في يد الصغير فجعل الصغير ينظر إلى الساق مرة وإلى السماء مرة ثم يبكي، فاقترب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترضيه وهو يضحك قائلا:ً (يا أبا عمير ما فعل النغير؟ حتى هدأ الطفل وابتسم). اهتدى الشافعي رحمه الله بهذه القصة إلى سبعين مسألة فقهية كان منها أنه يجوز مناداة الصغير بكنية (أبا عمير) (ذا الأذنين) وهي كنية أنس بن مالك رضي الله عنه ومنها أنه يجوز مشاركة الطفل في أفراحه وأحزانه ولو كانت ساذجة بسيطة لأن ما نراه ساذجاً بسيطاً يكون عند الطفل بالغ الأهمية، ومنها أنه يستحب جبر خاطر الطفل واسترضاؤه حتى يسكت وأن نتنزل إلى مستواه في التفكير، ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من ترضّى طفلاً حتى يرضى ترضاه الله تعالى يوم القيامة حتى يرضيه. لقد أحيا الشافعي ليلته تلك يُعمل الفكر في حادثة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستنبط منها أحكاماً وعلماً وفهماً وسلوكاً وأخلاقاً، وحري بنا أن نحاول اعمال الفكر في هذه الحادثة أيضاً لعلنا نهتدي إلى أمور ونستنبط معرفة وعلماً. هكذا يرتقي أولو العلم درجات ويقطعون المسافات ليصلوا إلى مرضاة ربهم سبحانه ويكسرون نفسهم الأمارة بالسوء، فطوبى لهم وحسن مآب.

سهر العيون لغير وجهك ضائع وبكاؤهن لغير فقدك باطل

ها هو الإمام وقد علمنا نيات طلب العلم أو إحياء الليل في طلب العلم، وينبغي أن يكون هدفنا الأول هو إحياء شريعة رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، ذلك يقربنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعل بيننا وبينه جسر تواصل دائم وإمداد لا ينقطع ونور لا ينطفئ؛ وشيئاً فشيئاً ينكشف أمامك الطريق وتسير على بيّنة من الأمر لأنك على هدي رسول الله تقتفي أثره وتترسّم خطاه صلى الله عليه وعلى آله.