سلسلة إرشاد الشباب | الموسم الأول ” الشباب والدين ” |المقالة الرابعة | مسالك المتقين | الشيخ عبد السميع ياقتي

 مسالك المتقين

♦ مقدمة

    الحمدُ لِلَّهِ حبيبِ المتقينَ، وسَائِقِهِم زُمَراً إلى جنةٍ عرضُها السمواتُ و الأراضِين، و الصلاة و السلام على سَيِّدنا وَنَبِينا مُحَمَّد سيد المتقين، القائل: «أَمَا و اللهِ فإنّي لَأخشاكُمْ للهِ وأتقاكُمْ لَه»، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

ما معنى التقوى وما هي حقيقتها، وما هي صفات المتقين و ما هو جزاؤهم، و كيف يصل العبد إلى مرتبة أن يكون من المتقين ، كل هذه القضايا و غيرها سنناقشها في هذه المقالة المميزة عن التقوى و التي هي بعنوان مسالك المتقين ضمن سلسلة إرشاد الشباب في موسمه الأول الذي يناقش قضايا الشباب و الدين.

فإنَّ لكلِّ غراسٍ و زرعٍ ثمرٌ يُجنَى، ولكلِّ سعيٍ وعملٍ جزاءٌ وأجرٌ يُرجَى، وإنَّ التقوى هي الغايةُ العُظْمَى والمقْصِدُ الأسمَى لكلِّ ما أمَرَ بِه ربُنَا ونَهى.

ففي أمْرِهِ سبحانه بالعبادةِ عامةً قالَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وقالَ في فرضِ الصيامِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وفي الحجِ والتزوِّدِ له، قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾، وفي ذبحِ الهَدْيِ و البُدْنِ قالَ صراحةً: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ﴾.

♦ فما هي التقْوَى وما هي حقيقَتُها؟ و كف نتحقق بهذا الأمر الإلهي العظيم:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾

التقوى مُشتقةٌ في أصلِها اللُّغَويِ من الوِقَايَةِ، وهي الحمايةُ والحاجِزُ بَيْنَكَ وبينَ ما تَكْرَه، كما في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ وقولِه صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرَة». ومنْ هنا اكتَسَبتِ التَّقوى معناهَا الشرعِيَّ، وهو: أنْ تجعلْ بينك وبينَ عذابِ اللهِ حاجزاً و وِقايةً، بامتثالِ أَوَامِرهِ واجتنابِ نواهيهِ.

وأما حقيقةُ التقوى: فهيَ كمَا قال المفسِرونَ في تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾، أي: يا أيُّها المؤمنون ابذُلوا كلَّ جَهْدِكم وطاقتِكم؛ لتَمتَثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ ،وتَجتنِبوا نواهيَه، ولتُحقِّقوا تقوى الله تعالى الاتِّقاءَ الحقَّ الواجبَ الثابتَ بقَدْرِ ما تستطيعون ،كما في قوله: “فاتقوا الله ما استطعتم”).

فالتقوى في حقيقتِها ليستِ الأعمالَ والعباداتِ الظاهريةَ، بلْ هيَ الدافعُ والمعنَى الذي وَقَرَ في القلبِ، فَتَرْجمتْهُ الجوارحُ بصورةِ الأعمالِ، يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«التقوى هاهنا، ويُشير إلى صدره صلى الله عليه وسلم ثلاثاً».

ومنْ هنا نشأتِ العلاقةُ بينَ الصدقِ والتقوى، فكلاهُما منْ عملِ القلبِ يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، فَكَم مِنْ عملٍ صالحٍ في الظاهرِ لا يُؤتِي ثمارَهُ،  ولا يُكتَبُ له القَبُولُ عند اللهِ تعالى، لأنه لم يَنْبُعْ من مَعِينِ الصدقِ والتقوى.

يقولُ صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ صَائِمٍ ليسَ لهُ مِنْ صِيَامِهِ إلا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ ليسَ لهُ مِنْ قِيَامِهِ إلا السَّهَرُ».

♦ فما هي علاماتُ و صفاتُ المتقينَ الصادقين؟

إنَّ القرآنَ والسنةَ لَيَفِيضان بِذِكْرِ أَوْصافِ المتقين وعلاماتِ التقوى ولكن حسبنا الآن آيةٌ عظيمةٌ جامعةٌ، حَوَتْ طائفةً مهمةً منَ صفاتِهم، وعلاقاتِهم مع ربِهم ومعَ مجتمعِهم ومع أنفسِهم.

يقولُ الله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾. فقد بيَّنتْ هذه الآيةُ أولاً العلاقةَ الإيمانيةَ فقالَ تعالى: (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ).

ثم تناولتْ علاقةَ المؤمن مع الناسِ، وكيفَ أنَّهُ يُوظَّفَ ما آتَاهُ اللهُ منَ النِّعمِ في خدمِة مجتمعِه، ويَبْذُلُ الخيرَ لأمتِهِ، فقالَ: (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ).

ثم ذكرتِ الآيةُ كيفَ أنَّ هؤلاءِ المتقونَ، يُوفونَ بعُهودِهِم كلها:

 فيوفون بما عاهَدوا عليه ربَهم بالإيمانِ بهِ، لمَّا أَشْهَدَهُم على أنفُسِهم ألستُ بربِكم؟ فقالوا شَهدْنا.

ويوفون لرَسولِهِم بتصديقِهِ واتباعِ ما جاءَ بهِ، ويوفون لكلِّ مَنْ يَرتبطونَ معَهُم بِعَهَدٍ أو ميثاقٍ، حتى وَلَو كانوا منْ أعدائِهم أو من غيرِ مِلَّتِهم ودينهم، فقالَ: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ).

ثم ذكرتِ الآيةُ علاقتَهُم بأنفسِهم بتربيتها وتدريبها على الصبرِ وتحمُّلِ ضغوطاتِ الحياةِ فقال: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) ثم أكَّدَ ارتباطَ كلَّ هذه المعاني والعلاقاتِ بالصدقِ والتقوى فقالَ: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

وهناك آيات عظيمة أيضاً جمعت بعضاً من صفات المتقين مع ما أعده الله تعالى لهم وردت في سورة آل عمران يقول الله تبارك و تعالى : ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦).﴾

♦ والآن السؤال المحوري: ما هي المسالك العملية التي توصل إلى التقوى؟

 إن اكتسابَ التقوى و التحققِ بها، يتمُّ عن طريقِ آلِيَّتَينِ أو وسيلتين اثنتين:

الأولى: بالبعدِ عن المشْتَبهاتِ من الأمورِ و اجتنابِ مُقدِّماتِ المعاصي و الفجورِ، يقول صلى الله عليه وسلم: «الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ في الحَرامِ».

ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ، حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأْسٌ».

وأما الوسيلة الثانية: فهي صُحْبةُ الصادقينَ و مرافقتُهم، والبعدُ عن رُفَقَاءِ السُوءِ ومَجَالِسِهم، يقولُ اللهُ سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.﴾

فأبَشِرُوا أحبتي الشباب المتقين وطِيبُوا نَفساً بما أعَدَّهُ اللهُ لكم من أنواعِ الأجرِ العميمِ و الفضلِ العظيمِ، و ألوانِ النعيمِ الأبدي المقيم يوم القيامة ، بالإضافة إلى الأجر الدنيوي.

يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ و ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً.﴾

ولْنَقِفِ الآنَ معَ هذا المشهدِ الخِتَامِيِّ العظيمِ يومَ القيامةِ عندما يَحْشُرُ الرحمنُ عبادَهُ المتقينَ إليه وَفْداً ،ويَسُوقُهُم إلى جنتِه زُمَراً، وتَصْطَفُّ الملائكةُ صَفاً صَفاً، مُرَحِّبَةً بهم ومُسلِّمةً عليهم.

يقول الله تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.﴾

 

اللهمَّ اجْعَلنا منهمْ و احْشُرْنا معهُمْ ، وأعنَّا على التَّخَلُّقِ بصفاتِهم

اللَّهُمَّ وَفِّقْنا إلى ما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بِنَواصِينا إلى التقوى، واجْعلْنَا من عبادِكَ الصادقينَ المتقينَ الفائزينَ بجناتِ النعيمِ يا ربَّ العالمين.

و الحمد لله رب العالمين

و صلى الله و سلم على سيدنا محمد و على آله و أصحابه أجمعين