سلسلة أخلاق النبي ﷺ| المقالة الثانية| خلق الرحمة- 2 الرحمة بالمؤمن والكافر| الشيخ محمد قيلش 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أعلن النبي ﷺ في الحديث المشهور المسلسل بالأوليَّة أن رحمة الله إنما تنال الراحمين، فقال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» [1]، كما بيَّن أن الرحمة إنما تخصُّ الراحمين من الناس، فقال: «من لا يَرحم لا يُرحم» [2]. وقد كان ﷺ القدوة والأسوة في هذا الخلق العظيم، فشملت رحمته ﷺ كلَّ الكائنات، وتجلَّت في مظاهر عديدة، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. 

فأمَّا رحمته بالإنسان فقد ظهرت في رحمته ﷺ بالمؤمن والكافر، والعاصي والمطيع، والصغير والكبير، والنساء والرجال. 

رحمته ﷺ بعموم المؤمنين والمؤمنات: أثنى الله تبارك وتعالى على نبيه ﷺ في معرض امتنانه على المؤمنين فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، (أي يشقُّ عليه ضرركم، وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقِّكم) [3].

فمن مظاهر رحمته ﷺ بالمؤمنين ورغبته في إيصال الخير لهم في الآخرة ما رواه عبدُ اللَّهِ بن عَمرِو بنِ العَاصِ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَلَا قَولَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبرَاهِيمَ ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضلَلنَ كَثِيرًا مِن النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي…﴾ الآيَةَ [إبراهيم:36]، وَقَالَ عِيسَى عَلَيهِ السَّلَام: ﴿إِن تُعَذِّبهُم فَإِنَّهُم عِبَادُكَ وَإِن تَغفِر لَهُم فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي. وَبَكَى. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبرِيلُ اذهَب إِلَى مُحَمَّدٍ – وَرَبُّكَ أَعلَمُ – فَسَلهُ مَا يُبكِيكَ. فَأَتَاهُ جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبرِيلُ اذهَب إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُل: إِنَّا سَنُرضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُك» [4].

ومن مظاهر رحمته ﷺ بالمؤمنين ورغبته في إيصال الخير لهم في الدنيا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أنَّ النبي ﷺ قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أَوْلَى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إنْ شِئْتم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب: 6]، فأيُّما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته مَن كانوا، ومن ترك دينًا أو ضَيَاعًا – أي: أولادًا فقراء – فليأتني فأنا مولاه» [5].

وأما رحمته ﷺ بالكفار: فقد ظهرت بحرصه ﷺ على هدايتهم وإنقاذهم من النار، وقد بلغ من رحمته ﷺ أن كادت نفسُه تتلَف حسرةً وأسفًا عليهم إن لم يؤمنوا، وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف:6]، ويقول تعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: 8]. 

ومن أمثلة حرصه ﷺ على هدايتهم رحمة بهم ما ورد عن أنسٍ رضِي اللّه عنه قال: «كان غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ. فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهْوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» [6].

_______________________________

[1] الجامع الصحيح للترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، رقم 1924، وقال حسن صحيح، والسنن لأبي داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، رقم 4941.

[2] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله، حديث رقم5779. والمسند الصحيح لمسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال، حديث رقم2318.

[3] الرازي، التفسير الكبير، 16/ 177.

[4] المسند الصحيح لمسلم، كتاب الإيمان، باب دعاء النبي ﷺ لأمته، وبكائه شفقة عليهم، حديث رقم 346.

[5] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الفرائض، باب قول النبي ﷺ من ترك مالا فلأهله، حديث رقم 6350. والمسند الصحيح لمسلم، كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته، حديث رقم 1619.

[6] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام، حديث رقم 1290.