سلسلة أحوال الصائم مع القرآن الكريم في شهر رمضان | المقالة الأولى | الشيخ محمد قيلش

 

        • خصوصية وفضل أهل القرآن

 

الحمد لله الذي رَفَعَ رتبةَ أهلِ كتابه، المتخلِّقين بأخلاقه المتأدِّبين بآدابه، المواظبين على تلاوته وإقرائه، الناصحين في تعليمه وإتقانه، المخلصين لله تعالى يتلونه حقَّ تلاوته، اصطفاهم مِن بين خليقتِه، وجعل قلوبهم أوعية لحفظ كتابه، ومَنَّ عليهم بأن جعلهم مِن أهله وخاصَّته، فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ[فاطر: 32] وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على سيدنا محمد الذي أرسله الله تعالى للعالمين بشيراً ونذيراً،  فكان مما بشَّر به أمَّتَه أن قال: «خيركم من تعلم القرآن وعَلَّمه» [1].

فاللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على هذا النبي الكريم، وعلى آله المتواترةِ أخبارُهم، وأصحابه المشهورةِ آثارُهم.

أما بعد: فإن شهر رمضان قد دقّ الأبواب، والعلاقة بين القرآن الكريم وشهر رمضان لا تخفى، ففي هذا الشهر المبارك أُنزل القرآن الكريم، وفيه يشمر أهل الإيمان عن سواعد الجدّ والطاعات، ويتنافسون في ختمات متواليات، متدبرين آياته آناء الليل وأطراف النهار. فيا أيها المسارعون السّباقون هذا ميدان التنافس في الطاعات والقربات، ويا أيها التّجار؛ يا تجار الآخرة هذا موسم التجارات الرابحات، هذا موسم المضاعفات للأجور، هذا شهرٌ التنزلات، هذا شهر الإقبال على الله، هذا شهر يباهي الله فيه بكم ملائكته.

  • روى الطبراني بإسناده عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله قال يومًا وقد وَحَضَرَ رَمَضَانُ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ ، فِيهِ خَيْرٌ يَغْشَاكُمُ اللَّهُ فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةَ وَيَحُطُّ فِيهَا الْخَطَايَا ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الدَّعْوَةُ ، يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ وَيُبَاهِيكُمْ بِمَلَائِكَةٍ ، فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسَكُمْ خَيْرًا ، فَإِنَّ الشَّقِيَّ كُلَّ الشَّقِيِّ مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ».

ومن المعلوم أن لله تعالى خواصًّا في الأزمنة والأمكنة والأشخاص. وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يغتنمون تلك الخصوصيات، فهذا نبي الله زكريا عليه السلام يتلمس خصوصية المكان حين كان يدخل على السيدة مريم عليها السلام فيجد عندها الرزق الوفير فيدعو الله تعالى في ذلك المكان فتجاب دعوته، ويقص الحقُّ سبحانه ذلك علينا بقوله: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38].

ومن الأزمنة الخاصة الليالي والأيام المباركات التي حضنا الله سبحانه على كثرة العبادة فيها: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن”.

ومن الأمكنة الخاصة: “المسجد الحرام والمسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، والمسجد الأقصى مسرى الحبيب صلوات ربنا وسلامه عليه، نسأل الله تعالى أن يكرمنا بتحريره والصلاة فيه”.

ومن الأشخاص:الأنبياء والأولياء، ومنهم أهل الله وخاصته، وهم أهل القرآن الكريم“.

 

فإذا اجتمعت خصوصية شهر رمضان مع خصوصية أهل القرآن فقد عظُمت المنّة، وتضاعف الفضل.

  • أخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن سيدنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ. قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» [2].

وهولاء صنفان، صنف متقن حافظ يسهل عليه الحفظ والعمل، وصنف يصعب عليه قراءة القرآن وحفظه، إما لعجمة في لسانه، أو لجهل بالقراءة وعلم التجويد، أو لكبر في السن، أو لغير ذلك. ومع ذلك فهو لا ييأس، ويحاول ولا تزيده الصعوبة إلا رغبةً وإصراراً.

  • وقد بشر النبي كل صنف بثوابه، فقال فيما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : قال: «مَنْ قَرأَ القُرآنَ فَقامَ بهِ آناءَ اللَّيلِ و النَّهارِ، يُحلُّ حَلالهُ و يُحرِّمُ حَرامهُ، خَلطهُ اللهُ بِلحمهِ ودَمهِ، وجَعلهُ رَفيقَ السَّفرةِ الكِرامِ البَررةِ، و إذا كَانَ يَومُ القِيامةِ كَانَ القُرآنُ لهُ حَجيجاً، فقالَ يا رَبِّ: كُلُّ عَاملٍ يَعملُ في الدُّنيا يَأخذُ بِعملهِ في الدُّنيا إلا فُلانٌ كَانَ يَقومُ فِي آناءِ اللَّيلِ و النَّهارِ فيُحلُّ حَلالي ويُحرِّمُ حَرامي، يا رَبِّ فأَعطهِ، فيُتوِّجهُ اللهُ تَاجَ المُلكِ ويَكسوهُ مِنْ حُللِ الكَرامةِ، ثمَّ يَقولُ: هَلْ رَضيتَ؟ فيَقولُ: يَا رَبِّ أَرغبُ في أَفضلَ مِنْ هَذا، فيُعطيهِ اللهُ عَز وجَلَّ المُلكَ بِيمينهِ والخُلدَ بِشمالهِ، ثُمَّ يُقالُ لهُ: هَلْ رَضيتَ؟ فَيقولُ: نَعمْ يَا رَبِ، ومَنْ أَخذهُ بَعدَ مَا يَدخلُ في السِّنِّ فأَخذهُ وهو يَتفلتُ مِنهُ أَعطاهُ أَجرهُ مَرَّتينِ» [3].

  • وأخرج أيضًا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله قال: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه ومات في الجماعة بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والمهرة، ومن قرأ القرآن وهو يتفلت منه آتاه الله أجره مرتين ومن كان حريصا عليه ولا يستطيعه ولا يدعه بعثه الله يوم القيامة مع أشراف أهله وفضلوا على الخلائق كما فضلت النسور على سائر الطيور ثم ينادي مناد أين الذين كانوا لا تلهيهم رعاية الأنعام عن تلاوة كتابي فيقومون فيلبس أحدكم تاج الكرامة ويعطي الملك بيمينه والخلد بيساره، ثم يكسى أبواه إن كانا مسلمين حلةًّ خير من الدنيا وما فيها فيقولان أنى لنا هذا و ما بلغته أعمالنا؟ فيقال إن ولدكما كان يقرأ القرآن» [4].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، عن عثمان رضي الله عنه، (5027).

[2] مسند الإمام أحمد بن حنبل، في مسند أنس بن مالك، (12292). وسنن ابن ماجه، كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه، (215).

[3] شعب الإيمان للبيهقي، تعظيم القرآن، فصل في إدمان تلاوة القرآن، (1836).

[4] شعب الإيمان للبيهقي، تعظيم القرآن، فصل في إدمان تلاوة القرآن، (1837).