سلسلة أحوال الصائم مع القرآن الكريم في شهر رمضان | المقالة الرابعة | الشيخ محمد قيلش



        •  فضل وكيفية قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاما مباركين كاملين لا متنهى لهما دون رضاه سبحانه. وبعد:

 

فإن من المعلوم أن شهر رمضان له خصوصيَّة بالقرآن، فترى الناس إذا دخل هذا الشهر المبارك تسارعوا إلى الاجتماع على القرآن الكريم تلاوة وتدبرا، وتنافسوا في قراءة القرآن الكريم، وذلك أن هذا الشهر المبارك هو الذي أنزل فيه القرآن، كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ [البقرة: 185].

 

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أنزل الله عز وجل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم أنزله جبريل بعد على محمد فكان فيه ما قال المشركون وردًّا عليهم» [1]، ويشهد لذلك قوله تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، وقوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ[الدخان: 3].

 

وكان النبي  يتدارس القرآن الكريم مع جبريل في كل عام في شهر رمضان، ففي الصَّحيحينِ عن ابن عباس – رضيَ الله عنهما – قال: «كان النَّبي  أجود ما يكون في رمضان، حين يَلْقاه جبريل، فيُدَارسه القرآن – فَلَرَسُول الله حين يلقاه جبريل أجود منَ الرِّيح المرسلة» [2].

دَلَّ الحديث على استحبابِ دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعَرْض القرآن على الحفاظ، وفيه دليلٌ على استحبابِ الإكثار مِن تلاوة القرآن في شهر رمضان.

 

وفي حديثِ فاطمة رضي الله عنها عن أبيها «أنه أخْبَرَهَا أنَّ جبريل – عليه السلام – كان يعارضُه القرآن كل عام مَرَّة، وأنه عارَضَه في سنة وفاتِه مَرَّتين» [3].

وفي حديثِ ابن عباس: «وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن»[4]، فدَلَّ ذلك على استحباب الإكثار منَ التلاوة في رمضان ليلاً، فإنَّ اللَّيل تنقطع فيه الشَّواغل وتجتمع فيه الهِمم، وَيَتَوَاطأ فيه القلب واللسان على التَّدَبُّر، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل: 6].

وكان النَّبي  يُطيل القراءة في قيام رمضان باللَّيل، أكثر من غيره. وقد صَلَّى معه حُذَيفة ليلة في رمضان، قال: «فقرأ بـ البقرة، ثمَّ النِّساء، ثم آل عمران، لا يمرُّ بآيةِ تخويفٍ إلاَّ وقف وسَأَل، قال: فما صَلَّى الرَّكعتينِ حتى جاءَه بلال فآذنه بالصَّلاة» [5].

 

حال الصحابة في قراءة القرآن الكريم في شهر رمضان:

بداية يجدر التنبيه إلى أنه في العموم ينبغي أن يراعي الإمام حال المأمومين، فلا يطوِّل إن كان يصلي بجمع فيه أناس ذوو أحوال مختلفة، ومن أراد أن يزيدَ في القراءة ويطيل – وكان يُصَلِّي لنفسه – فليطول ما شاء، وكذلك مَن صَلَّى بِجَماعة يرضون بِصَلاته، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم للناس، فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء» [6].

 

ومن هنا نفهم اختلاف الروايات عن الصحابة الكرام في تطويل القراءة في الصلاة وتقصيرها، فقد ورد أن الصحابة الكرام كانوا يطيلون القيام في شهر رمضان فقد أمر عمر أُبَي بن كعب، وَتَمِيمًا الدَّاري، أن يقوما بالنَّاس في شهر رمضان، (فكان القارئ يقرأ بالمِئينَ في ركعة، حتى كانوا يعتمدونَ على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلاَّ عند الفجر) [7].

ورُويَ أنَّ عمر جمع ثلاثة قُرَّاء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأَ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرينَ [8].

 

وسُئِل الإمام أحمد عَمَّا رُوي عن عمر رضي الله عنه، فقال: “في هذا مَشَقَّة على الناس، ولا سِيَّما في هذه اللَّيالي القصار، وإنَّما الأمر على ما يحتمله النَّاس”.

وَقَد رَوَى الحَسَن: أنَّ الذي أَمَره عمر أن يُصَلِّي بالناس، كان يقرأ خمس آيات، ست آيات، وقد ذكر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة أنَّه يُرَاعى في القراءة حال المَأْمومينَ، فلا يشقّ عليهم [9].

وروي عن أبي ذر أنَّ النَّبي قام بهم ليلة ثلاث وعشرين، إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا له: لو نَفَّلْتَنَا قيام هذه الليلة، فقال: «إنَّ الرَّجل إذا صَلَّى مع الإمام حتى ينصرفَ، حسب له قيام ليلة» [10].

وعن ابن مسعود قال: (مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ خَمْسِينَ آيَةً لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَرَأَ ثَلَاثَمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ، وَمَنْ قَرَأَ تِسْعَمِائَةِ آيَةٍ فُتِحَ لَهُ) [11].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما للضياء المقدسي، رقم 387، 11/375.

[2] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم 6. والمسند الصحيح لمسلم، كتاب الفضائل، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، حديث رقم 2308.

[3] المسند الصحيح لمسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها السلام، حديث رقم 2450.

[4] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم 6.

[5] مسند الإمام أحمد بن حنبل، في حديث حذيفة بن اليمان، رقم 23399. وسنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أحق بالإمامة، رقم 980.

[6] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، رقم 703.

[7] الموطأ للإمام مالك بن أنس، عن السائب بن يزيد، كتاب السهو، باب ما جاء في قيام رمضان، رقم 379.

[8] السنن الكبرى للبيهقي، عن أبي عثمان النهدي، في جماع أبواب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان، باب قدر قراءتهم في شهر رمضان، رقم 4295.

[9] انظر لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي صـ170ـ. 

[10] سنن أبي داود، باب في قيام شهر رمضان، عن أبي ذر رضي الله عنه، رقم 1375.   

[11] الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار. لأبي بكر ابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، باب من قرأ مائة آية أو أكثر، رقم 30086.