سلسلة أحوال الصائم مع القرآن الكريم في شهر رمضان | المقالة الثالثة | الشيخ محمد قيلش


      • أتاكم شهر القرآن أيها المتنافسون:

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن لقدوم الحبيب الغائب لسرور وفرحة لا توصف، وهذا شهر التنافس في الخيرات قد هلّت طلائع موكبه، وهبّت نفحاتُه، فيا أيها المسارعون السبّاقون هذا ميدان التنافس في الطاعات والقُربات، ويا أيها التّجار يا تجار الآخرة هذا موسم التجارات الرابحات، هذا موسم المضاعفات للأجور. هذا شهرٌ التنزّلات، هذا شهر الإقبال على الله ، هذا شهر يباهي الله فيه بكم ملائكته.

    • أخرج الطبراني في معجمه الكبير عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا فَلَا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا» [1].

فهيّا بنا أيها المتنافسون نري الله من أنفسنا ما يرضيه عنا، حتى نكون ممن شملته الرحمة الإلهية فيشفع لنا الصيام والقرآن.

    • أخرج الإمام أحمد وغيره عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله «الصِّيامُ والقَرآنُ يَشفعانِ للعَبدِ يَومَ القِيامةِ، يَقولُ الصِّيامُ: أيْ ربِّ إني مَنَعتُهُ الطَّعامَ والشَّهواتِ بالنهارِ فَشَفّعني فيه، ويقولُ القُرآن: ربِّ منعتُهُ النَّومَ باللَّيلِ فشفِّعني فيه فَيُشفَّعانِ» [2].


فهنيئاً لكم يا أهل القرآن يا من اختصكم الله منذ الأزل واصطفاكم من بين خليقته، ومنَّ عليكم بأن جعلكم من أهله وخاصته، فقال ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ[فاطر، 32]. وهذه الآية فيها واو جماعة حقّها أن تكتب بماء العيون لمن تدبّرَ وتفكّر، فهي البشارة لجميع أهل القرآن. فقد قال تعالى يَدْخُلُونَهَا، أي جميعاً.

وإن التقرب إلى الله تعالى بتلاوة كلامه وتدبُّره والتفكُّر في آياته هو من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، لمن يطلب الحسنات الكثيرات، ويرجو التجارات الرابحات، لأنه من جملة التجارة الرابحة التي شهد الله تعالى لها بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر: 29].

 

ففيه الدلالة على أكمل طريق وأفضل سبيل موصل للسعادة في الدنيا والآخرة، فمن سلك تلك الطريق فقد فاز وأنجح. وقد بشَّرنا الله تعالى فيه بالأجر الكبير بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9]. وهذا الأجر العظيم لا يحصيه عدُّ عادٍّ، ولا حساب حاسب، بل إن الله تعالى قد أخفى ما فيه من قرة عين؛ لينال أهل الليل الذين يحيون لياليهم بالقرآن والصلاة والدعاء جزاءهم يوم القيامة.

مصداق ذلك قوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 16 – 17].

 

وإن رسول الله قد رغّبنا بالإكثار من تلاوة القرآن والحرص عليه أشد الحرص، فقد أخرج أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ» [3].

وعن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله يقول «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» [4]. والبطلة: السحرة.

 

وإنَّ حِفْظَ وتَعَلُّمَ آية من كتاب الله تعالى أعظم من كل بهارج الدنيا وزخارفها، مصداق ذلك ما أخرج الإمام مسلم عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْنُ فِى الصُّفَّةِ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِىَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِى غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ – والكوماء هي الناقة العظيمة السنام – فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ» [5].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] المعجم الكبير للطبراني، 519.

[2] مسند الإمام أحمد بن حنبل، في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، 6626. والمعجم الكبير للطبراني، 88.

[3] سنن أبي داود الطيالسي، أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله، باب تحزيب القرآن، 1398.

[4] المسند الصحيح لمسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، 804. ومسند الإمام أحمد بن حنبل، في حديث أبي أمامة الباهلي الصدي بن عجلان، 22146.

[5] المسند الصحيح لمسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، 803.