سلسلة أحوال الصائم مع القرآن الكريم في شهر رمضان | المقالة الثانية | الشيخ محمد قيلش

 

        •  شرف ومنزلة صاحب القرآن:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن فضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، فإذا كان القرآن الكريم مع أحد من الناس فإنه قد حاز ما لا يُدرَك فضله، ولا تُدرَك منزلته، وهذا النبي قد بيَّن لنا أن أهل الشرف والمنزلة العالية في هذه الأمة هم أصحاب القرآن الكريم.

فعن ابن عبَّاسٍ، قَال: قَال رَسُولُ اللهِ : «أَشْرَافُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ, وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ» [1]. 

 

وهذا الشرف يكون في الدنيا والآخرة، فإن صاحب القرآن ليعلو في المنزلة في الدنيا والآخرة، فقد حضَّنا النبي على إكرام حامل القرآن الكريم، فقال: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» [2].

 

    • وحامل القرآن في الدنيا:
      يكون أهلاً للإمارة والقيادة، ويقدَّم على غيره، وإن كان فقيرًا أو صغيرًا، فقد أخرج مسلم أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: (من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا قال فاستخلفت عليهم مولى؟ قال إنه قارئ لكتاب الله عز وجل وإنه عالم بالفرائض قال عمر أما إن نبيكم
       قد قال «إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين») [3].

وأخرج الترمذي وحسَّنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله بَعْثاً وهم ذوو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا خشية ألا أقومَ بها. فقال رسول الله : تعلَّموا القرآن واقرأوه، فإن مَثَلَ القرآن لمن تعلمه فقرأه كمثل جِراب محشو مِسكاً يفوح ريحه في كل مكان، ومن تعلَّمه فيرقد وهو في جوفه فمثله كمثل جِراب أوكىء على مسك» [4].

وإن التفاضل بين المؤمنين في الإمامة في الصلاة التي هي أعظم فريضة على المؤمنين إنما يكون بالقرآن الكريم، فأحقُّ القوم بالصلاة أقرؤُهم للقرآن، فعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال لنا رسول الله «يَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، وأَقْدَمُهم قراءةً، فإن كانتْ قراءتُهم سواءً، فليؤمَّهم أقدمُهم هجرة، فإن كانوا في الهِجرة سواءً، فليؤمَّهم أكبرُهم… الحديث» [5].

وإن حامل القرآن الكريم المداوم على قراءته وتدبُّر آياته لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: (من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً و ذلك قوله عز و جل ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، قال : إلا الذين قرؤوا القرآن) [6].

وإنّ حامل القرآن الأكثر أخذاً له ليقدم على غيره حتى في أول منازل الآخرة، فقد أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: «كان النبي يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن، فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» [7].

 

    • وأما حامل القرآن في الآخرة:
      فإنّ حامل القرآن العاملَ به ليكون مع النبي
      في الآخرة، ليس فوقه أحد في الجنة، فعن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: «يُقال لصاحب القرآن يوم القيامة: إقرأ وارق في الدرجات ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» [8].

وروي عن أم الدرداء أنها قالت: (سألت عائشة عمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن ما فضله على من لم يقرأه؟ فقالت عائشة إن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن فمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن فليس فوقه أحد [9].

 

وإنَّ كتابَ اللهِ أوثقُ شافعٍ ** وأغنى غَنَاءٍ واهبًا مُتَفَضِّـلا  

وخيـرُ جليـسٍ لا يُمَـلُّ حـديثُهُ ** وتَـرْدَاده يَزْدادُ فيـه تَجَمُّـلا  

وحيث الفتى يَرتاعُ في ظلماته ** منَ القبرِ يلقاهُ سَنًا مُتَهَلِّلا 

هـنالك يَهْنِيهِ مَقِيـلاً وروضةً ** ومنْ أجْلِهِ في ذِرْوَةِ العزِّ يُجْتَلا

يناشِـدُ في إرضائـه لحـبيبه ** وأجْـدِرْ بهِ سُـؤْلا إلـيـهِ مُـوَصَّـلا  

فيا أيـها القـاري به متمـسِّـكًا ** مُجِـلًّا لهُ في كلِّ حـالٍ مُبَـجِّـلا  

هنـيـئـاً مريئـاً والداك عليهما ** ملابـسُ أنوارٍ منَ التاجِ والحُـلا

فمـا ظنُّـكم بالنَّجْـلِ عند جزائه ** أولئك أهـلُ اللهِ والصفوةُ المَلا

أولو البِرِّ والإحسانِ والصبرِ والتقى ** حُلاهُمْ بها جاءَ القُرَانُ مُفَصِّلا  

بنفسي من استهدى إلى الله وحـدَه ** وكانَ لـه القُرْآنُ شِرْبَا وَمَغْسِلا

فطوبى له والشوقُ يَبعَثُ هَمَّهُ ** وَزَنْدُ الأسَى يَهتاجُ في القلبِ مُشْعِلا [10]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  شعب الإيمان للبيهقي، تعظيم القرآن، فصل في تنوير موضع القرآن، (2433).

[2]  السنن لأبي داود، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، رقم (4843)، وهو حديث حسن.  

[3] المسند الصحيح لمسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، (817).

[4] الجامع الصحيح للترمذي، أبواب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، (2876)، وقال حسن.

[5]  مسند الإمام أحمد بن حنبل، في بقية حديث أبي مسعود الأنصاري، (17063). وسنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصل6ة والسنة فيها، باب من أحق بالإمامة، (980).

[6] شعب الإيمان للبيهقي، تعظيم القرآن، فصل في تنوير موضع القرآن، (2450).

[7] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الجنائز، باب من يُقدم في اللحد، (1347).

[8] الجامع الصحيح للترمذي، أبواب فضائل القرآن، (2914)، وقال حسن، والسنن لأبي داود، كتاب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة، (1464).

[9]  الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، لابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، في فضل من قرأ القرآن، (29952). وللحديث شواهد.

[10] الأبيات منتقاة من متن الشاطبية = حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع. للإمام الشاطبي