توجيه النبيه لمرضاة باريه (٣٤) سلسلة توجيهات وتنبيهات في تصحيح مسار الدعوة يبينها ويطرحها الحبيب عمر

توجيه النبيه لمرضاة باريه هو عبارة عن سلسلة من التوجيهات المهمة في مجال الدعوة يشرحها المربي الحبيب عمر.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ثمرةُ مقابلةِ الأرواح

 

وقال رضي الله عنه ونفعنا به[1] : النُّصرة لدين محمد من خزائن وجود الله وكرمه، تحصل فيكم وبكم وعلى أيديكم، يحصل ذلك إذا حصلت مقابلةُ الأرواح، لو لم تقابل أرواح سادتنا الصحابة حبيب الرحمن ما جاءت النصرة على يد أحد منهم للدين أبدًا، ولا قاموا بموقف حميد أبدًا.
ولكن لما قابلت أرواحُهم روحَه الشريفة سُقِيت من تلك الروح، ولما سُقِيت كانوا في جهادهم وهم في مقابلة معه، وكانوا في أذكارهم وهم في مقابلة معه.
ولما اشتد الحال عليهم في غزوة اليمامة، جعلوا شعارهم «وامحمداهْ * وامحمداهْ»[2] ، وكان صغارهم وكبارهم يتمثَّل له وهو في الجهاد، أو في القيام بالغزوة سيد الوجود ولقاؤه والشوق اليه، فكانت المقابلات دائمات، فبها قابلَهم الحق تعالى بما هو أهله، وأجرى على أيديهم ما أجرى، فتوجهوا بهذه المقابلات.
كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: {أكرم الناس عليَّ جليسي، لو استطعتُ ألَّا يقع الذباب على وجهه لفعلتُ}[3] . لو نقدر أن نُوصِل الذين يريدون السفر إلى أماكنهم ومنازلهم على رءُوسنا لأحببنا ذلك، ولكن إذا تقابلت الأرواح مع الأرواح، نرجو فيما يأتي من أعمارهم أن يطلع[4] في الصحائف ما يناسب هذه المقابلة، وما يناسب هذا الاستقبال، فإنَّ عرْضها قوي في كل يوم، وفي كل أسبوع على حضرة الداعي الذي دعانا، والهادي الذي هدانا، والراعي الذي رعانا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وفوق ذلك كله رب العزة والجلال تعالى الذي يَرقُب منا النوايا والمقاصد، والإرادات والحركات والسَّكنات.
وجِّهُوا هِمَمكم، وأقبلوا بكلياتكم على ربكم سبحانه وتعالى، وإن شاء الله تعقبها اجتماعات.
عامتكم[5] ستحصُلُ لهم اجتماعات كثيرة في الدنيا على النصرة للشريعة إن شاء الله، وعلى زيادة في ظهور نور هذه الشريعة، وظهور شُعاعها في الأقطار، ثم بعد ذلك الاجتماعات في البرازخ، والاجتماعات في يوم القيامة، والاجتماع في دار الكرامة لمن سبقتْ لهم من الله الحسنى، جعلنا الله وإياكم منهم.
وهكذا توجُّهكم يتم وأنتم محافظون على خِلَع حصَّلها الكثير منكم، في اهتمامه أو همِّه بنشر الخير، أو تعلُّق بالجناب النبوي وبمتابعته وبالقيام بسُنته وبآدابه، ولا تتركوا القرآن وتلاوته بالتدبر، ولو قلَّ ما تقرؤه كلَّ يوم، لكن بالحرص على التدبُّر، لا تسمح بتركه، ثم لا تسمح بتركه، ثم لا تسمح بتركه أبدًا.
اجعل لك نصيبًا مِن تأمُّل القرآن وتدبُّره في كل يوم، وفي كل ليلة، كذلك ما قبل الغروب وما بعده إلى العشاء، وما قبيل الفجر، وما بعده إلى الإشراق، حافظ عليه بجهدك ما استطعت.
كما أخذتَ الإشارة إلى أنه ربما تجد الذي ينتقد، والذي يعارض، والذي لا يلتفت إليك، والذي يستهزئ بك، فاصبرْ. كذلك تجد أيضًا الذي يمدحك، والذي يستقبلك، وتجد الذي يقابلك بالبشاشة، وتجد الذي يتواضع لك فلا تغترَّ بشيء من ذلك.
كما قلنا لك لا تلتفتْ إلى مَن يسُبُّ، لا تلتفتْ إلى مَن يمدح؛ لأن الأمر حالٌ بينك وبين ربك، نريده يقوم ويصفو حتى يرضى عنك، ومَدْحُ الناس ظنٌّ، وسبُّ الناس ظنٌّ، وظنون الخَلْق لا تُغنِي من الحق شيئًا، والمسألة حالُك أنت مع الله تعالى، فلا تتأثر بمدح، ولا تتأثر بذمٍّ، ولا تُصدِّق المدَّاح ولا تُصدقِ السبَّابَ، ولا تلتفت إلى كلام أحد منهم. واعلم أن القول قول الله تعالى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [الأنعام: ٧٣].
فَلْيَرَ منك انكسار القلب معه دائمًا، فيكون عندك جل جلاله، «أنا عند المنكسِرة قلوبُهم مِن أجلي”[6] .
وكثير من الذين حضروا هذه المحاضر نرجو لهم في لحظات الوفاة أن تبدو لهم صورة هذه المجامع، وما فيها من الأرواح، وعند ذلك تكاد أن تطير أرواحهم شوقًا إلى الأئمة الذين يحضرون فيها.
بل يبدو لكثير منهم ويلتاح لهم نور الإمام للكل، والمقدَّم على الكل، فيُتوفَّوْن على حالة من الشوق، تُذكِّر بشأن الصحابة الذين كانوا يموتون على الشوق إليه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
فحافِظوا على علائقكم، وحافِظوا على ارتباطاتكم، فإنها سلاسل مؤدية إلى النهايات، والمراتب الرفيعات، والمرافَقَة لسيد الكائنات، وورثَتِه القادات، ثبَّتَنا الله وإياكم، وأعاننا الله وإياكم، وحرَسنا الله وإياكم.
الآن في ساعة الوداع[7] ، لا شك أن عددًا جَمًّا من الملائكة وغيرهم من الأرواح معكم، وينظرون منظركم، في ختام هذه الأيام والليالي، ولا نزال في ختامٍ بعد ختام، إلى الختام الكبير بعد ذلك.
فاغتنموا هذه الساعة، وإن شاء الله تقع لقاءات كثيرة، في خيرات وفيرة، وكلٌّ يدعو الله تعالى لأهل معرفته من أجل الله، وللذين صاحبهم من أجل الله تعالى خاصة، وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات في المشارق والمغارب.
واعلموا أنه مُقبِلٌ عليهم خيرٌ كبير، مُقبِلٌ عليهم ما وعد به البشير النذير، والسراج المنير، لا بد أن يتم، لكن نحن ما نريدك أن تكون خارج الدائرة، ولا خارج الزمرة، ولا خارج الجماعة، كن منهم، وألصِقْ نفسك بهم، وربك إذا رآك متشبِّثًا وعِزَّتِه لن يتركك ولن يرميك، إلا إذا أنت رضيتَ بالرمية ورضيتَ بدعوة عدوِّه فلا تَلُمْ إلا نفسك.
وإلا فمقبلٌ على الأمة خيرٌ كبير، تظهر فيه راية الحبيب في الشرق والغرب، والجنوب والشمال، ويهتف الكون بـ «لا إله إلا الله * محمد رسول الله»، ويحكم باسمه تعالى وباسم رسوله صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نترقَّب عطاء الله تعالى، ونتهيأ للدخول في دوائر المخصوصين بعناية الله، والممنوحين منه اختيارَه واصطفاءه واجتباءه.

 

[1] بعد صلاة الفجر أثناء خطابه لتوديع طلبة الدورة الرابعة 1419 هـ.
[2] انظر: “البداية والنهاية” لابن كثير، و”الكامل في التاريخ” لابن الأثير.
[3] قال ابن عباس: (أكرمُ الناس عليَّ جليسي الذي يتخطَّى الناسَ حتى يجلس إليَّ، لو استطعتُ ألَّا يقع الذباب على وجهه لفعلتُ) -وفي رواية- (إن الذباب لَيقعُ عليه فيؤذيني). انظر “التبيان في آداب حملة القرآن” للإمام النووي.
[4] أي: يظهر في الصحائف أو يكتب فيه.
[5] أي: أكثركم أو أغلبكم.
[6] قال الإمام السخاوي في “المقاصد الحسنة”: ذكره في “البداية” للغزالي. اهـ. وذكره الإمام المناوي في “فيض القدير شرح الجامع الصغير”.
[7] أي: وداعُ طلبةِ الدورة، ويكون ذلك عادة بعد صلاة الفجر في مصلَّى أهل الكساء بدار المصطفى.