توجيه النبيه لمرضاة باريه (٢٨) سلسلة توجيهات وتنبيهات في تصحيح مسار الدعوة يبينها ويطرحها الحبيب عمر

توجيه النبيه لمرضاة باريه هو عبارة عن سلسلة من التوجيهات المهمة في مجال الدعوة يشرحها المربي الحبيب عمر.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أقسام العهد

 

وقال رضي الله عنه ونفعنا به: تجديد العهد وذِكر العهد يبعث كوامِنَ[1] في أرواح أرباب الإيمان، لأن للعهد معهم صَولةً وجولة، من قبل أن يَبرُزوا إلى هذا العالم، وإلى هذا الكون، كانت بينهم وبين الرب الخالق الواحد الجبار الباقي المبدي سبحانه وتعالى، فكلُّ عهد إن كان منطويًا في ذلك العهد فهو عهدٌ محمود، وعهدٌ مبارك، وعهدٌ طيب، وإن لم يندرج وينطوِ في ذلك العهد فلا خيرَ فيه ولا بركة ولا نور، ولا نتيجة له، ولا ثمرة تحمد قط.
فالعهودُ المحمودةُ التي اندرجت في ذلكم العهد بُعِث الأنبياءُ لتجديدها بين الأمم، فكل نبيٍّ يأتي يجدد العهد الذي تمَّ بين الخَلْق وبين ربهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، وأنا وإياكم كنا عندهم، وكنا سمعنا ذاك النداء، وإن نسينا أو تناسينا، قلنا له: بلى، قلتم لمن؟ هو بنفسه خاطبكم {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. كنت معهم في ذاك المحضر، قلنا له: بلى {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: ١٧٢].
جدَّد الأنبياء عُهود الخلق مع الخالق، فجاء خاتم الأنبياء، فانفتح بابٌ في التجديد كبير؛ لأنه ما أحد أكرم على الله منه، فجدَّد أكرمُ الخَلْق العهد بين الخلق والخالق، فجدَّد العهد أكرمُ مخلوق لأكرم خالق، تركَنا على محجَّةٍ، على ضوء، على نور، على ضياء، على إشراق، على هداية، على سَناء، على اتصال، على إدراك، على شُهود، على معرفة، على حق يقين، وعين يقين، وعلم يقين، فجزاه الله عنا أفضل ما جزَى الأنبياءَ والمرسلين عن أممهم أجمعين.
بِهِمَّته وعظمته صارت العهود متجددة في أُمته، كلٌّ على قدْر وراثته، كأن الحق سبحانه وتعالى أنبأنا عن عظمة تجديد حبيبه لعُهوده، وقال في صريح كتابه مخاطِبًا له: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: ١٠]، ما أعظم يد حبيبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ما أعظم منزلتها عند الربِّ. الصحابةُ بايَعوا تلك اليد اللحمية لكن قال الله هذه صورتها، أما المعنى: فقد بايعتموني؛ لأن رعايتي مع هذه اليد، لأن عنايتي مع هذه اليد، لأن محبتي لهذه اليد، لأن رضاي مع تلك اليد {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: ١٨]. فرضوان الله مع تلك اليد الطاهرة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: ١٠] فمَن أراد أن تكون معه يدُ الله فليَمُدَّ يدَه ليد سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وأكرمَ اللهُ الأمة بهذه التجديدات للعهود، على أشكال ومعانٍ كثيرة، مختلفة ومتنوعة، ومن ذلك ما يحصل للأُمة من تجديد على رأس كل مئة سنة، على رأس كل قرن، فتحصل معانٍ في التجديد كبرى وقوية، وجمعَنا اللهُ وإياكم على ظهر الأرض، وأراد لنا أن نُحيِي في هذا الوقت والزمن على رأس قرن من القرون الهجرية القرن الخامس عشر، واجَهْنا القرنَ بما فيه. أما فضلُ الحق وعمله وإحسانه للأمة في التجديد فلن ينقص، ولن يتخلف، ولن يتأخر بلا شك ولا ريب، ولكن نصيب كل واحد منا من هذا النور ومن هذا التجديد ما هو؟ وما مقداره؟ وإلى أين يصل؟
لا شك أنكم تستشعرون النعمة من نواحٍ كثيرة بعد غياب أمور كثيرة، ظهرت أمور كثيرة بعض الشيء، وفُقِدت أشياء حُزِن على فَقْدها فعادت بوجه أكبر مما كان، وكانت قلوب موجودة في البلدة تتقطع على هذا الدِّين، وتحرص على إقامة العهود وتجديدها، فما تجد لها سبيلًا لأن تنطلق، أو لأن تتحرك، أو لأن تتكلم، وكان ما كان، هيَّأ الله لكم الفرصة في هذا الزمان، وفي هذا الوقت لو تريد أن تمشي من طَرَف اليمن إلى طرَفه، تُذكِّر في كل قرية لن يُعرِّضك أحد إلى خطر كتعذيب أو قتل أو نحو ذلك، هذا الذي عمله سبحانه لك، فما الذي عملته أنت له؟ وهيَّأ لك الفرصة والسبيل، ومدَّ لك البلاد والبساط، وليس اليمن وحدها، ويفتح لك غير اليمن، وسيفتح لك شرق الأرض وغربها سبحانه وتعالى، فقل لي أنت ماذا تعمل له؟
يجب أن تأخذوا نصيبكم من إدراك: أنتم تتعاملون مع مَن؟ وتنطلقون من أي ميدان؟ وجود الحلقات للرجال والنساء، ومتابعة أبناء المدارس ورَبْطهم بالمساجد، ووجود المجلات الطيبة والنشرات الطيبة، والاعتناء بنشر الأشرطة الحسنة ما بين الناس، ووجود تشاوُر وتعاوُن بينكم، كل هذه مظاهر مِنَّة من الحق سبحانه وتعالى، وأَشائِرُ مقدمات لما خُبِّئ لهذا القرن، هذه أشائر المقدمات، تأتيكم بعدها المقدمات، ويواجهكم بعدها ما أبرمه الحقُّ في قضائه الذي لا يُرَد.
تحتاج هذه الأشائر للمقدمات منَّا إلى مقابلة لها بمعنى الشكر، ومعاني الشكر تتركَّز على قاعدة النظر في هذه الأشائر، كيف نقوِّمها؟ كيف نرفعها؟ كيف نُعدِّل المائل منها؟ كيف نوسِّع قواعدها؟ كيف نُثبِّت دعائمها؟ نظرُنا في هذه الأمور هو معنى كبير وقاعدة للشكر.
شُكر الله في مقابلة هذه الأشائر إنْ حَسُنَ منا، وإن جاء على وجهه، ستأتي المقدمات على وجه عظيم من وجوه إحسانه هو، إذا قابلنا هذه الأشائر نحن بوجوه إحسان منا يقابلنا هو بالمقدمات بوجوه إحسان منه، وما نسبة إحساننا إلى إحسانه! لسنا بشيء، وإحساننا في أوامره هذه وتعاليمه هو إحسان منه أيضًا، فإن قبلنا هذا الإحسان منه، الذي يُجرِيه في قوالب عملنا، وسعينا بتفكيرنا وتواضعنا وذِلَّتنا، وطلبنا للتطهير وللتزكية، وانفتاح صدورنا وانشراحنا للإخوان وللناس، وتحمُّلنا للسباب والشتائم والكلام علينا والانتقاد، وقابلنا المنتقد بالدعاء له وبالإحسان إليه، وبرعاية حقِّه، وما إلى ذلك، فهذا إحسان من الله يُجرِيه في قوالبنا، نحن إن قبلنا منه هذا الإحسان فاجأَنا هو بإحسان من عنده آخر، ليس على مستوى قوالبنا، ولا يَجري بأيدينا نحن، بل يُجريه على يده مباشرة {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: ٦].
كيف فردٌ من العباد يكون في نُصرته (الله)! نُصرتك أنت ما معناها؟! هذا الذي يكون في نُصرتك أحاط عِلمًا بمعاني نصرتك من حيث تعلم، ومن حيث لا تعلم، أنت قد تتصور أنَّ نُصرتك تيسِّر لك شيئًا من الظواهر أو المظاهر، أو تسلِّمك من العذاب في الآخرة -مثلًا يُدخِلك الجنة- وأَنعِمْ بهذه النُّصرات التي تتصورها، لكن في حياتك، وفي مختلف شؤونك، وعند موتك، وفي برزخك، وفي آخرتك، وبعد دخولك الجنة، مَعانٍ من نصرتك، أنت لا تَقرُب من فَهْمها، فضلًا عن أن تحيط بها، هو ينصرك بها، فأنت لو كنت في نصرته تنصر بقدر طاقتك وهِمَّتك وعقلك وإدراكك ووسعك، لكن لما يكون هو في نُصرتك، فالآن هذه ليست بطاقة بشر، ولهذا تدرك الإشارة في قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: «ولا خَطَرَ على قلب بشر».[2]
معاني النصرة شأنها أكبر من أن نتخيَّله أو نَحصُره أو نَقصُره بعقولنا، لكن لو قدرتَ أن تجعل رب العرش في نُصرتك فما أدري كيف أَصِفُ سعادتك؟! فمعاني السعادة التي عندك ما يُحاط بها؛ لأن الذي في نصرتك رب العرش العظيم، مُكوِّن الأكوان.
وأنت تقدر على ذلك، بصدقك في مثل ما تجد من ملاحظات تقوم بها في سَيْرك وفي عملك وفي واجباتك، تَصدُق فيها، فبذلك تتسبَّب لأن يكون في نُصرتك رب السماوات والأرضين، ورب الأولين والآخرين، فما أعظم ما تُدعَى إليه إذا تأملتَ وعقلتَ، وإذا تدبرتَ وإذا فهمت.

 

[1] الكوامن: المقصود بها المعاني التي تستقرُّ في النفس.
[2] الحديث: «أعددتُ لعبادِيَ الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذن سمعتْ، ولا خَطَر على قلب بشر». رواه البخاري ومسلم.