توجيه النبيه لمرضاة باريه (٢٢) سلسلة توجيهات وتنبيهات في تصحيح مسار الدعوة يبينها ويطرحها الحبيب عمر

توجيه النبيه لمرضاة باريه هو عبارة عن سلسلة من التوجيهات المهمة في مجال الدعوة يشرحها المربي الحبيب عمر.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في خطابه لطلابه المتخرِّجين في دار المصطفى

 

وقال رضي الله عنه ونفعنا به[1]: لا يضعُ أحدٌ منكم في ذِهْنه أنه غير خادم للحق ورسوله وشَرْعه، فماذا سيعمل هناك؟ عملُ الخادم، عملُ العبد مع السيد دوامُ إنابةٍ وخشية وخضوع، وطلبٍ لأداء ما أحبَّ اللهُ منه.
فإنْ كان يخطر على بال أحدكم أنَّ بِناية الأربطة هو الغرضُ أو عَقْد الدروس هو الغرض، أو الشهرة هي الغرض، فعليه أن يعالج نفسه ويداويها، ما هناك شيء من هذا هو الغرض، حتى بناء الأربطة والمدارس ليس غرضًا مفيدًا لذاتها أبدًا. الغرضُ أداءُ حق الأمانة لله تبارك وتعالى ببذل الروح والنفس، وببذل غاية الوسع والمستطاع والقدرة كلها في العمل بشرع الله سبحانه وتعالى، ونَشْره بين الخلق، سواء كان في دكان، أو في سوق، أو في سيارة، أو في طائرة، أو في مطار، أو في مسجد، أو في ملعب، أو في رباط، أو في معهد، أو في مدرسة، أو في دائرة حكومية، إلى غير ذلك، فالخادم يطلب ما هو أرضى للسيد دائمًا.
لا يُقِرُّ نفسه على مَيل لثناء الناس، ولا على استلذاذ بمدح الناس، ولا على التفاتٍ للمنزلة في قلوب الناس، ولا على موردٍ لغرض النفس، ولا يزال يجتهد ويطلب من ربه الثبات.
ويتجلى هذا في حُسن انطوائكم في الذين سبقوكم، ونِيَّتكم في جمع قلوب المسلمين والتآلُف بينهم، وفي القيام بشرع الله تبارك وتعالى، ونُصْرة دينه، ومعاداة أعدائه ممن يعادي المسلمين من نصارى أو يهود ومَن والاهم، فنكون حربًا لمن حارب، وسِلْمًا لمن سالم، نحب بحبه الناس ونعادي بعداوته من خالفه مِن خَلْقه، ما نوالي نصرانيًّا، ولا نوالي كافرًا، ولا نوالي فاجرًا، ولا نوالي فاسقًا، يكون تبعَ قوةٍ أو دولةٍ أو حاكم أو محكوم، كلُّهم في نظرنا سواء.
ميزان الولاء عندنا واحد، مَن كان في مرضاة الله وطاعته فهو صاحبٌ لنا، يكون مسكينًا أو فقيرًا أو صعلوكًا بين الناس، أو حاكمًا أو محكومًا، كلُّهم سواء، ومَن يخالف أمر الله فهو عدو لنا يكون من يكون، فقيرًا أو غنيًّا أو وزيرًا أو أميرًا أو مأمورًا، كلهم سواء.
تصادفون منهم دعواتٍ فلا تستجيبوا لها، تُزيِّن لكم أنكم بالمظهر تخدمون الدِّين، وأنكم بالتقدم على الغير تحافظون على الشريعة فلا تستجيبوا لها… كذَّابة، قولوا لها: معنا دعوةٌ من الصادق المصدوق تخالف دعوتكم، فلا نقبل ما دعوتمونا إليه، ونرد دعوة حبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم. اقطعوها عنكم، واقبلوا دعوة النبي وحده، واعملوا بها.
هذه الدعوة ما قامت إلا على الصدق والصبر والتضحية والاحتمال من أوَّلها، من أول خطواتها في مكة المكرمة، ماذا كان عمل الدعوة؟ هل هناك مبانٍ بناها؟ هل هناك مظاهر تظاهر بها؟ ومكثَ ثلاث سنوات لا يستطيع الجهر، حتى جاءه الأمر وجهر، وماذا جرى لبلال؟ وماذا عملوا مع عمار وأبيه وأمه؟ هكذا الدعوة، حبسوه صلى الله عليه وسلم في الشِّعْب، وذهب أصحابه إلى الحبشة، أحيانًا يكادون يخنقونه عليه الصلاة والسلام، وأحيانًا يضعون السَّلَا فوق ظهره وهو في السجود.
هذه الدعوة دعوة تضحية وبذل، ما في الدعوة مظاهر، ولا مفاخر، ولا جلْبُ مال، هكذا قامت الدعوة، وهذا تاريخ دعوتنا، وأيام الصبر في مكة هو سبب فتحها، بل وفتح العالم بعدها، فهذا تاريخ دعوتنا من بدايتها.
دعوتنا دعوة الوفاء بالعهد والبذل والعطاء والتضحية والإيثار والصبر والاحتمال والزهد والرغبة فيما عند الله، فكلُّ ما قام على غير هذا الأساس ليس من الدعوة، وليس بمتصل بسِرِّ هذه الوراثة، كم من النفوس هذه؟ الله يصلحنا ويؤتي نفوسنا تقواها.
ما المقصود من هذه الدراسة، ومِن هذه الدعوة؟ وما المقصود من هذا العلم والتعليم كله؟ والصادق مع الله إذا قيل له: اذهب إلى جنوبٍ. ذهب جنوبًا[2]، أو قيل له: اذهبْ إلى شمال. ذهب شمالًا، حيثما تريدنا، هكذا الدعوة. أما الذي يضه له عشرين غرضًا أمامه لنفسه فهذا ليس بجندي لله، بل هذا جندي لنفسه، فأين الجندي لله؟
قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اذهبوا إلى الحبشة»[3]. أيعرفون مَن في الحبشة؟ هل لهم غرض هناك؟ لا يعرفونهم ولا يعرفون طبائعهم، ولا يعرفون عاداتهم، لا لهم أصحاب ولا لهم أصدقاء، غُرباء، خرجوا امتثالًا لأمره، حتى بعض بَناتِهِ[4] صلى الله عليه وسلم خرجن معهم، فارقوا الوطن، فارقوا المكان، وبعد ذلك جاءت الهجرة إلى طَيْبَة، وأيام كان في طَيْبة ما الذي حصل؟ كلما جلس فترة خرجت السرايا التي يبعثها صلى الله عليه وسلم.
هذا تاريخ دعوتنا، وكم أيامٍ ربط الحَجرَ على بطنه وهو في المدينة؟ وما هي إلا عشر سنوات، ولكن كم من بركات فيها؟ لا زلنا نستقي منها ونشرب من ماء هذه العشر السنوات، ومرت عليه بعض الأيام يبعث للبيوت التسعة ما يجد شيئًا فيها للضيف، وهو الذي يقول لبنته: «ما يبقى من بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ ولا حَجَرٍ إلا ودخله دِين أبيك، بذُلِّ ذليل أو عِزِّ عزيز»[5]. أمرٌ قاهرٌ، بهذا الصبر بهذا الاحتمال، وقال لأبي بكر وعمر: «ما الذي أخرجكما؟» قالا: الجوع. قال: «قد أخرجني الذي أخرجكما»[6]. هذه أيامه وهو في المدينة، وجاء فتْح مكة وجاءت الوفود وجاء الخَرَاج والجِزْيات والزكوات من الأماكن المختلفة، ثم مع ذلك يُتوفَّى ودِرْعه مرهونةٌ عند يهودي في دَيْن كان قد أخذه، وبعد هذه الفتوحات بحثوا في بيته، فما وجدوا شيئًا من الطعام إلا شَطرًا من شَعيرٍ، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه.
نضع هذه الأمور أمام أَعُيننا، ونعلم ما عندنا من الضَّعْف والعجز، ولكن ما نرضى أن نهوى وراء هذه الفانيات، ومَيْل النفوس إليها وتعلُّق القلب بها، وهي أصلًا مُسخَّرة، والحالة المادية لزماننا بالنسبة لحالة الصحابة نادرةُ المشابهة لهم.
والقصد أن نَفقَهَ ونعلم المقصَد، ونشكر الله تعالى على ما أتانا، ولا نميل بقلوبنا إلى الفانيات، فليس أحدٌ منا مِن قومٍ ربطوا الحجر، ولا من قوم لا يوجد في بيتهم إلا الماء، فلا أحدٌ منا من هذا الصنف، وإذا نحن ممَّن لم نُتعِبْ أنفسنا فعلى الأقل نشكره تعالى، ونعلم عَجْزنا وضَعْفنا، ونؤدي حقَّ الموجود الذي عندنا، الله يوفقنا وإياكم، وينظر إلينا وإياكم.

 
 

[1] عام 1421 هـ.
[2] أي: إذا قيل له اذهب إلى جهة الجنوب قال: سأذهب. كناية عن غاية الامتثال.
[3] عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة، وأُوذِيَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتِنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دَفْع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعة من قومه وعمِّه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابَه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بأرض الحبشة مَلِكًا لا يُظلَم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه» رواه البيهقي.
[4] خرجت ابنته رقية مع زوجها سيدنا عثمان بن عفان.
[5] عن أبي ثعلبة الخُشَني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قَدِم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يُثنِّي بفاطمة، ثم يأتي أزواجه. فقَدِم مِن سفرٍ، فصلى في المسجد ركعتين ثم أتى فاطمة، فتلقته على باب البيت، فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي، فقال: «ما يبكيك؟». فقالت: أراك شَعِثًا نَصِبًا قد اخلولقت ثيابُك. فقال لها: «لا تبكي، فإن الله قد بعث أباكِ بأمرٍ لا يبقى على وجه الأرض بيت ولا مَدَر ولا حَجَر ولا وَبَر ولا شَعَر إلا أدخله الله به، عِزًّا أو ذُلًّا حتى يبلغ حيث بلغ الليل”. رواه الطبراني، وفي رواية المقداد بن الأسود وتميم الداري: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله كلمةَ الإسلام بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليل، إما يُعِزُّهم اللهُ عز وجل، فيجعلهم من أهلها أو يُذلُّهم فيدينون لها». رواه أحمد.
[6] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «ما أخرجكما مِن بيوتكما هذه الساعةَ؟». قالا: الجوع يا رسول الله. قال: «وأنا والذي نفسي بيده لَأخرجني الذي أخرجكما». رواه مسلم.