الهجرة النبوية (دروس وعبر) 4 | د. محمد فايز عوض

 

الحمد لله مدبر الشهور والأعوام، ومصرف الليالي والأيام، وصلى الله على سيدنا محمدٍ عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام. أما بعد أيها الأحبة الكرام.

    • أحداث الهجرة فيها من الدروس والعبر ما يضيق عنه المقام. فمنها:


1) درس في الهجرة:
لقد أذن الله تعالى لنبيه وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم الأرض، ومنعتهم قريش من إقامة دين الله.
إن الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر فحسب، بل هي هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله ، حتى يكون الدين كله لله.
هجرة من الذنوب والسيئات… هجرة من الشهوات والشبهات… هجرة من مجالس المنكرات.. هجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.

 

2) الصبر واليقين طريق النصر والتمكين:
فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي وأصحابه بمكة يهيأ الله تعالى لهم طيبة الطيبة، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر، 51]
إن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى. لكن من صبر ظفر.. ومن ثبت انتصر.. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[يوسف، 21].

 

3) درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله:
لقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس.
فالسيوف تحاصره عليه الصلاة والسلام في بيته وليس بينه وبينها إلا الباب، والمطاردون يقفون أمامه على مدخل الغار، وسراقة الفارس المدجج بالسلاح يدنو منه حتى يسمع قراءته، والرسول في ظل هذه الظروف العصيبة متوكل على ربه واثق من نصره.
فمهما اشتدت الكروب ومهما ادلهمت الخطوب يبقى المؤمن متوكلاً على ربه واثقاً بنصره لأوليائه.


فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان

 

4) درس في المعجزات الإلهية:
هل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي! هل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطئ أحدهم رأسه لينظر في الغار! هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبه فتسيخ قدماها في الأرض وكأنما هي تسير في الطين! هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن!
إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس، 82].

 

5) درس في الحب:
وقد قال الحبيب :«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» صحيح البخاري.
إن هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته … إن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله.
إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب على أهله ونفسه.
إن هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه على أحر من الجمر. 

فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب ويهجر سنته ثم يزعم أنه يحبه!!!

 

6) درس في التضحية والفداء:
لقد سطر النبي وأصحابه صفحات مشرقة من التضحية ، والمغامرة بالأنفس والأموال لنصرة هذا الدين .. لقد هاجروا لله ولم يتعللوا بالعيال ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم في مقابل أمر الله وأمر ورسوله .
فيوم أن بات علي في فراشه وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش ، ويوم أن قام آل أبي بكر عبد الله وأسماء وعائشة ومولاه عامر بهذه الأدوار البطولية كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم.

نعم .. لقد نام شبابنا عن الصلاة يوم أن نام علي مضحياً بروحه في سبيل الله، فشتان بين النومتين.
أين شبابنا الذين كلّت أناملهم من تقليب أجهزة القنوات ومواقع الشبكات. أين هذه الأنامل من أنامل أسماء وهي تشق نطاقها لتربط به سفرة النبي . ويوم القيامة ستشهد الأنامل على تضحية أسماء، وستشهد على الظالمين بما كانوا يعملون.
هكذا كان شباب الصحابة فأين شبابنا! أين شبابنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة!

 

7) درس في العبقرية والتخطيط واتخاذ الأسباب:
لقد كان متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها؛ بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
فالقائد: محمد، والمساعد: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين: أسماء، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، ودليل الرحلة: عبد الله بن أريقط، والمكان المؤقت: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي.
وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته ، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً.

 

8) درس في الإخلاص:
ثبت عنه أنه قال : «إنه ليس أحدٌ أمنُّ علي في نفسه وماله من أبي بكر» أخرجه البخاري والنسائي، فقد كان أبو بكر ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى[الليل، 18] ينفق أمواله على رسول الله ، وعلى الدعوة إلى دين الله.

    • لكن السؤال هنا هو لماذا رفض أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن؟

قال بعض العلماء: إن الهجرة عمل تعبدي فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحقق الإخلاص بأن تكون نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره. وهذا معنى حسن، وهو درس في الإخلاص وتكميل أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة (كنفقة الحج، وزكاة الفطر، وغيرها من الأعمال) فإن الأولى أن تكون نفقتها من مال المسلم خاصة.

 

9) درس في التأريخ الهجري:
التأريخ بالهجرة النبوية مظهر من مظاهر تميز الأمة المسلمة وعزتها، ويعود أصل هذا التأريخ إلى عهد عمر رضي الله عنه، فلما ألهم الله الفاروق الملهم أن يجعل للأمة تأريخاً يميزها عن الأمم الكافرة استشار الصحابة فيما يبدأ به التأريخ، أيأرّخون من مولده عليه الصلاة والسلام؟ أم مبعثه؟ أم هجرته؟ أم وفاته؟ 
وكانت الهجرة أنسب الخيارات، أما مولده وبعثته فمختلف فيهما، وأما وفاته فمدعاة للأسف والحزن عليه. فهدى الله تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة منطلقاً للتأريخ الإسلامي.
وظلت الأمة تعمل بهذا التأريخ قروناً متطاولة، حتى ابتليت في هذا العصر بالذل والهوان، ففقدت هيبتها، وأعجبت بأعدائها، واتبعتهم حذو القذّة بالقذّة، حتى هجرت معظم الدول المسلمة تأريخها الإسلامي فلا يكاد يعرف إلا في المواسم كرمضان والحج، وأرّخت بتواريخ الملل المنحرفة.
لقد نسينا تاريخنا فأنسينا تأريخنا! وأضعنا أيامنا فضاعت أيامنا! وما لم نرجع إلى ديننا الذي هو عصمة أمرنا! فسلامٌ على مجدنا وعزنا.. والله المستعان.


والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين