المقال الثاني من سلسلة كيفية إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العصر، والتحديات التي تواجه عملية الإحياء للشيخ عمر حجازي: أسباب تراجع التمسك بالسنة النبوية

يقدم لنا فضيلة الشيخ رؤيته في أسباب ترك السنة النبوية، مع بيان أهميتها في التشريع الإسلامي وكذلك ضرورة استعادتها، كما يقدم لنا أطروحته في كيفية إحياء السنة النبوية الشريفة، ودور كل فرد من أفراد المجتمع في هذا الإحياء، إلى جانب أهم التحديات التي سيواجهها من أراد تطبيق هذه المنهجية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذا هو المقال الثاني من أربعة مقالات في موضوع: كيفية إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العصر، والتحديات التي تواجه عملية الإحياء.

ويتناول المحور الثاني من هذا الموضوع، وهو: أسباب تراجع التمسك بالسنة النبوية

 

هناك مجموعة من الأسباب أدت إلى عزوف المسلمين بمختلف طبقاتهم وأعمارهم عن التمسك بالسنة، يمكن أن نلخصها فيما يأتي:

 

1 – الحياة المادية التي يعيشها المسلمون عموما، وطغيانها على تفاصيل حياتهم، حتى أصبحت مفرداتها معروفة متكررة، لا تتعدى الجوال والحاسب والطعام والشراب والعمل والنساء؛ حتى استقر في عقول كثيرين أن السعادة هي بامتلاك هذه الأشياء، وأن درجة السعادة إنما تقاس بحجم امتلاكه وتعامله مع هذه الأشياء.

لذلك كان تحذير النبي صلى الله عليه وسلم شديدا من الركون إلى الدنيا، والميل إليها، وسماه الوهْن، قال صلى الله عليه وسلم:(وليقذِفنَّ الله في قلوبكم الوهْن)، فقال قائل: يا رسول الله: وما الوهْن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت) [1] .

والوهْن: الضعف [2] .

 

2 – تراجع الإيمان في قلوب الناس بقلة الأعمال الصالحة، وغلبة المعاصي والسيئات: إن من سمة هذا العصر السرعة في كل شيء، في الطعام والشراب، والعمل، والوصول إلى المعلومة، والمعصية.

ومع تيسر أسباب المعصية، وسهولة الوصول إليها مع انتشار القنوات الفضائية، والإنترنت، ومع استثمار شركات عالمية في مجال الفجور والرذيلة؛ أصبح الوصول إلى المعصية وارتكابها أمرًا سهلًا هينًا، بكتابة بضع كلمات، وضغط زر واحد يستطيع المرء الوصول إلى ما يحرك شهوته، ويثير غرائزه، لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك؛ فبعد الإثارة تطلب النفس ما هو أبعد من مجرد النظر والرؤية؛ لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاقتراب من حمى الله، خشية الوقوع فيها، وحمى الله محارمه، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول: ( وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ) [3].

 

3 – فقدان الأسوة الحسنة التي يرجع إليها الناس: إن من أعظم الأسباب الداعية إلى التمسك بفكر أو منهج أو عمل هو وجود الأسوة الحسنة الصادقة في الدعوة إليه، الصابرة على تبليغه والدفاع عنه، العاملة به والمتمثلة له في سلوكها وأفعالها بمستوياتها المختلفة.

لذا كان من أعظم صفاته صلى الله عليه وسلم العمل والتخلق بالسيرة الحسنة والخلق العظيم، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر بشيء عمل به أولًا، ثم تأسى به الناس، وعملوا كما رأوه، لذا كان أسوة حسنة، قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}[الممتحنة: ٦].

جاء في الإصابة في تمييز الصحابة في ترجمة الصحابي الجليل: (الجُلَنْلدَى ملك عمان) [4]أنه قال عندما بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يدعوه إلى الإسلام: “لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يَغلِب فلا يَبْطَر، ويُغلَب فلا يُهجِر – أي لا يقول القبيح من الكلام – وأنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي” [5].

 

4- سوء عرض بعض المسلمين لمنهج الإسلام وهديه من خلال سلوك متشدد يسيء إلى صورة الإسلام في نفوس أبنائه قبل غيرهم.

والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من حارب التشدد والغلو، ولم يسمح بانتشاره وتمدده، وعبر صلى الله عليه وسلم في غير حديث عن سماحة الإسلام ويسره، ومما قاله: “إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه…” [6]. وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن مسعود: (هلك المتنطعون)، قالها ثلاثا [7]. والمتنطعون: الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم [8].

 

5 – استغلال غير المسلمين لأزمات المسلمين ومشاكلهم، واستثمارها في ادعاء أن الإسلام لا يملك حلولًا للمشاكل التي يتعرض لها المسلمون منذ عقود، وأن الحل في الابتعاد عن هذا المنهج والاستبدال به طريقة غيرهم.
وإن محاولة أعداء الإسلام التأثير في المسلمين وحرفهم عن منهج نبيهم لم تنقطع منذ بزوغ فجر هذا الدين، وصدق الله القائل: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق…}[البقرة: ١۰٩].

 

6 – الانبهار الحاصل لدى شباب المسلمين بالغرب. ويتمثل هذا الانبهار في النقاط الآتية:
– عد الكثير من شباب المسلمين الغرب النموذج الذي يجب أن يحتذى، فتراهم في كل مناسبة يرددون: انظر إلى الغرب، انظر إلى حياتهم، انظر إلى تطورهم، انظر إلى أخلاقهم. وإن ذلك من أخطر ما يؤثر في الناشئة، الذي يرتكز في عقله وقلبه فكرة أن الغرب على صواب، وأن منهجه وطريق وأسلوب حياته هو الحق، بدليل ما يحققه من رفاهية وسعادة مادية، وراحة لأبنائه.
– السعي للذهاب إلى بلادهم بأي ثمن، ولو بالمخاطرة بالحياة بركوب البحر بشكل غير شرعي، وعده الوجود في تلك البلاد هو تحقيق لمستقبله ومستقبل أولاده.

هذه أهم الأسباب التي تؤثر في ابتعاد المسلمين عن منهج نبيهم وسنته.
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

[1] سنن أبي داود، باب في تداعي الأمم على الإسلام، (8713).
[2] الفيومي، المصباح المنير، مادة (و، ه، ن).
[3] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، (52)، وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599).
[4]/1/538/.
[5] أبو غدة، عبد الفتاح، الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، ص65 – 66.
[6] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، (39).
[7] صحيح مسلم، كتاب العلم، باب: هلك المتنطعون، (2670).
[8] النووي، شرح صحيح مسلم/16/220/.