المقالة الرابعة من سلسلة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد قيلش – خلق الرحمة : ٤ الرحمة بالحيوان والجماد

يقدم لنا فضيلة الشيخ رسماً مفصلاً لأجمل وأهم ما اتصف به رسولنا صلى الله عليه وسلم من الخلق الحميد، مستخرجاً القصص والأمثلة من سيرته العطرة المليئة بالمواقف التربوية والإرشادات الملهمة التي وجب علينا اتباعها، حتى يكون اقتداءنا به اقتداء حسناً دقيقاً نافعاً، اقتداء قول وعمل.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

رحمته ﷺ بالحيوان:

ورد فيها أحاديث كثيرة تدل على عظيم رحمته ﷺ إرشادًا وسلوكًا منه ﷺ.
فمن إرشاده ﷺ نهيُه عن التحريش بين الحيوانات، وتهييج بعضها على بعض لتقتتل فيما بينها [1]. ومنه نهيه أن يُتَّخَذ شيء من الحيوانات غرضًا للرماية بالسهام عند إرادة تعلم الرمي[2]. ومنه إرشاده ﷺ إلى الإحسان في ذبح البهائم عند إرادة أكلها بقوله ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) [3]. ومنه تحذيره من أذية الحيوانات بقوله ﷺ: (عُذِّبت امرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) [4]. ومنه ترغيبه ﷺ بالإحسان إلى الحيوانات ورحمتها بقوله: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب؛ فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) [5]. ومنه إرشاده ﷺ إلى إخفاء السكين عن عين الذبيحة عند إرادة ذبحها؛ رحمة بها، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (مر رسول الله ﷺ على رجل واضع رجله على صَفْحَة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها فقال: أفلا قبل هذا! أو تريد أن تميتها موتات!) [6].

وأما سلوكه ﷺ في رحمة الحيوانات فمن أمثلته ما ورد عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه (أن رسول الله ﷺ دخل حائطاً لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى النبي ﷺ حَنَّ وذَرَفَت عيناه، فأتاه النبيُّ ﷺ فمسح ذِفْراه -أي ما بعد أذنيه- فسكتَ، فقال: “من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟” فجاء فتًى من الأنصارِ، فقال: لي يا رسول الله، قال: أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي مَلَّككَ اللهُ إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُه وتُدْئبه) [7]. ومن ذلك أمره واحدًا من الجنود أن يحرس كلبة ترضع أولادها وقد خافت عليهم من الجند؛ لئلا يتعرض أحد من الجيش بالأذى لها ولا لأولادها[8]. ومن ذلك رحمته بطائر أخذ الصحابة فرخيه، فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ وَمَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ فِيهَا فَرْخَا حُمَّرَةٍ فَأَخَذْنَاهُمَا، قَالَ: فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهِيَ تَصِيحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِفَرْخَيْهَا؟ قَالَ: فَقُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: فَرُدُّوهُمَا) [9].

وأما رحمته ﷺ بالجمادات فنكتفي من ذلك بحادثة حنين الجذع المشهورة، حيث كان النبي ﷺ يقوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالتْ امرأةٌ مِنَ الأنصار أو رجل: يا رسولَ اللهِ ألا نجعل لك منبراً؟ قال: (إِنْ شِئْتُمْ. فجعلوا له منبراً، فلمَّا كان يوم الجمعة دُفِعَ إلى المنبر، فصاحت النخلةُ صياح الصبيِّ، ثم نزل النَّبيّ ﷺ فضمَّها إليه تئن أنين الصبيِّ الذي يُسَكَّن) [10]. فانظر إلى جذع مقطوع كيف أنَّ وبكى، وصاح واشتكى، لفراق حبيبه ﷺ! حتى رحمه حبيبه ﷺ وعاد إليه ورطَّب خاطره حتى هدأ!

 

[1] حديث النهي عن التحريش بين البهائم أخرجه الترمذي في سننه (الجامع الصحيح)، كتاب الجهاد، باب ما جاء في كراهية التحريش، رقم 1708، وأبو داود في السنن، كتاب الجهاد، باب في التحريش بين البهائم، رقم 2562.
[2] حديث النهي عن اتخاذ شيء فيه الروح غرضًا أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيد والذبائح، باب النهي عن صبر البهائم، رقم 1956.
[3] المسند الصحيح لمسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، حديث رقم 1955.
[4] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، حديث رقم 2365. والمسند الصحيح لمسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها، حديث رقم 2242.
[5] الجامع الصحيح للبخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، حديث رقم 2363. والمسند الصحيح لمسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، حديث رقم 2244.
[6] المعجم الكبير للطبراني، من حديث عكرمة عن ابن عباس، رقم 11916، 11/333، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، كتاب الأضاحي، رقم 7563، 4/257، وقال صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
[7] السنن لأبي داود، كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الداوب والبهائم، رقم 2549.
[8] المقريزي، إمتاع الأسماع، 1/355.
[9] المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، كتاب الذبائح، رقم 7599، 4/267، وقال صحيح. ووافقه الذهبي.
[10]الجامع الصحيح للبخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم 3584.