الفصل الثاني من الطوالع السعدية في بيان مهام الدعوة الفردية للحبيب محمد بن عبد الرحمن السقاف

كتاب الطوالع السعدية في بيان مهام الدعوة الفردية للحبيب محمد بن عبد الرحمن السقاف الداعية الإسلامي وصاحب المصنفات في مجال الدعوة، وهو كتاب مهم في بيان قضية الدعوة إلى الله بشكل عام، والدعوة الفردية بشكل خاص، ويبين للمسلم مفهوم قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة}، يبين فيه الحبيب محمد أهمية الاهتمام بأمر المسلمين ودعوتهم إلى سبيل الله، وأهمية الدعوة الفردية من خلال بيان مهمة بعث الرسل ليوقظوا قلوب العباد، وتأييدهم المنهاج الكامل، وذكر الآثار والأدلة التي تحث على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والكلام عمن هو مكلف بالدعوة الفردية، وبيان الأوهام التي تثبط الدعوة ومعاني الدعوة الفردية ومراحلها والآداب القلبية للداعية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 من هو المكلف بالدعوة إلى الله؟

 

قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف: ١٠٨]. أوضحت هذه الآية الكريمة أن الدعوة إلى الله هي سبيل جميع المؤمنين المتبعين لسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وهي واجبة على كل مسلم لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر … أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا ثم تدعونه فلا يستجيب لكم) [1].
وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [2].
وفي الحديث: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعده خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يُؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) [3].
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب بهذا الحديث كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان بالقيام بدوره في الدعوة إلى الله؛ ولكن كل شخص مسئول على حسب استطاعته كما أوضح ذلك الحديث السابق، فالعالم مسئول وطالب العلم مسئول، وصاحب المنصب والمقام مسئول، والعامي مسئول.
ونذكر هنا مسئولية كل شخص:

أولًا: العالم:
وهو مسئول عن تبليغ علمه وإيصاله إلى عامة الناس والجهال وطلاب العلم، ومَنْ سأله عن ذلك بلسان حاله ومقامه، قال الإمام الحداد: “ومن قصَّر عن الدعاء إلى الله وإلى دينه من المتأهلين له مع التمكن منه، فإنه داخل تحت عموم الوعيد الوارد في حق من كتم ما أنزل الله من البينات والهدى، وفي ذلك وعيد شديد وعذاب وبيل، وذم من الله بليغ. قال الله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة: ١٥٩]. وقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار}. إلى قوله: {فما أصبرهم على النار} [البقرة: ١٧٤].
وقد أخذ الله المواثيق والعهود على الذين آتاهم كتابه وعلمه وحكمته في أن يدعو عباده إلى ذلك ويبينوه لهم كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} [آل عمران: ١٨٧].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من سُئل عن عِلم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» [4]. والسؤال بلسان المقال ظاهر جلي، ولا يبعد أن يكون السؤال بلسان الحال مثله أو قريبا منه، وقد قيل: «لسان الحال أفصح من لسان المقال». فإذا رأى ونظر العالم بدين الله، المذكر بأيام الله الداعي إلى سبيل الله، إلى الجاهلين بالعم الغافلين عن الآخرة، المقبلين على الدنيا، لم يسعه إلا أن يبين لهم ما يجب عليهم من حق الله ويلزمهم من طاعته وإقامته أمره واجتناب معصيته وركوب نهيه” [5].
ثم إنه يجب أن يتفرغ للدعوة والتعليم جماعة تكون وظيفتهم وديدنهم، فهؤلاء المتجردون المنقطعون لدعوة الخلق إلى الله هم أهل الفلاح وأهل الخلافة الكاملة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك من كان من العلماء مشتغلًا ببعض أسباب المعاش، يجب عليه أن يقتطع من وقته جزءًا للتعليم والدعوة وإلا صار ممن يكتم العلم، والله وليُّ الهداية والتوفيق.

ثانيًا: طالب العلم:
طالب العلم مسئول في طلبه من عدة وجوه، فعليه:
1. أن يحسن نيته في طلب العلم فينوي به نفع نفسه وغيره، وينوي به الدعوة إلى الله وإحياء السنة وتعليم الجهال، إلى غير ذلك من صالح النيات [6].
2. أن يعمل بعلمه حتى يصير قدوة حسنة ومثالًا يقتدى ويهتدى به؛ فإن الدعوة بالعمل أبلغ من اللسان، وكما قيل: «يؤثر عمل واحد في ألف ما يؤثر ألف قول في واحد». ويعمل بعلمه كذلك لكي لا يكون حجة للعامة على الدين.
3. أن يُعلِّم من لا يَعْلَم، خصوصا العلم الواجب؛ ليبارك الله في علمه ويزيده، قال سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “المال تنقصه النفقة … والعلم يزكو بالإنفاق”.
وفي حق من تعلم بنية صالحة وعمل بعلمه وعلم غيره، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منه نقية قَبِلَت فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أَمْسَكَت الماء فنفع الله بها ناسًا فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به … فعلم وعلَّم، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به) [7].
وورد عن سيدنا عيسى عليه السلام أنه قال: “من علم وعمل وعَلَّمَ فذلك يدعى عظيمًا في ملكوت السموات”.

ثالثًا: أصحاب المناصب والمقامات، والمنسبين للبيوت المشرفة، والمنتمين للعلماء [8]:
والدعوة من هؤلاء أزين وبهم أليق، وخاصة أن الناس إليهم ملتفتون وعليهم مجتمعون، وقيامهم بوظائفهم الاجتماعية تحت مظلة الاهتمام بالدعوة إلى الله ونشرها يجعل لتلك المقامات مكانة في القلوب، وهيبةً لدى الأعداء، وقبولًا عند العوامِّ والخواصِّ، ونذكر منها مسئولية هؤلاء فعليهم.
(1) أن يراعوا حق ما أقامهم الله فيه وتفضل به عليهم، قال تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: ٧].
(2) أن يراعوا حرمة من خلفوهم وانتسبوا إليهم بالاقتداء بهديهم، والسير بسيرهم، والتشبه بهم، والاطلاع على مناقبهم وأعمالهم وأحوالهم، قال تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب} [الطور: ٢١].
(3) أن يحسنوا للناس تصوير منهج أولئك الأكياس من خلال معاملاتهم وإسدائهم المعروف وتخلقهم، وأن يربئوا بأنفسهم عن مجالسة الجهَّال والأشرار.
(4) أن يبذلوا وجاهاتهم ووسعهم في خدمة الدعوة النبوية والدعاة، وخيار الناس، ونصرة المظلوم.

رابعًا: عوام الناس:
والعوام مخاطبون بالدعوة من عدة وجوه:
1. أن يقوموا على رعيتهم من زوجات وأولاد وأهل وخدم بتعليمهم الواجب عليهم، وأمرهم بالطاعات، وزجرهم عن المعاصي، قال صلى الله عليه وآله وسلم:
(كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) [9].
2. أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر بقدر الاستطاعة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [10].
3. أن يبلغوا عن رسول الله ما بلغهم، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بَلِّغُوا عنِّي ولو آية» [11]. والله المستعانُ على ذلك.
بهذا اتضح أن الأمة كلها مخاطبة بأفرادها وجماعاتها بالدعوة إلى الله لكن القاعدة التالية: (كل على حسب مسئوليته وبقدر استطاعته).
فائدة: وليعلم الجميع أن من نوى خدمة الأمة هداه الله إلى طريقها ووفقه لذلك، قال الإمام الجنيد: “من فتح على نفسه باب نية حسنة فتح الله له سبعين بابًا من أبواب التوفيق”.

 

[1] رواه الترمذي من حديث حذيفة، وقال حسن. انظر: تخريج الإمام العراقي للإحياء.
[2] رواه مسلم في كتاب الإيمان 70، وابن ماجه 4003، وأحمد 10651.
[3] رواه مسلم، كتاب الإيمان 71.
[4] رواه الترمذي 2573، وأبو داود 3173، وأحمد 7255، وابن ماجه.
[5] الدعوة التامة ص 13.
[6] يروى عن الإمام الحداد هذه النيات في طلب العلم يستحب ذكرها في بداية المجالس العلمية وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، نويت التعلم والتعليم والتذكر والتذكير والنفع والانتفاع والإفادة والاستفادة، والحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، والدعاء إلى الهدى، والدلالة على الخير، ابتغاء وجه الله ومرضاته وقربه وثوابه سبحانه وتعالى).
[7] رواه البخاري في كتاب العلم 77، ومسلم في الفضائل 4232.
[8] راجع كتاب (الدليل المناسب لأصحاب المقامات والمناصب) للحبيب أبي بكر العدني المشهور.
[9] رواه البخاري 4801، ومسلم 3408.
[10] رواه مسلم، رقم 70.
[11] رواه البخاري 3202، والترمذي 2593، وأحمد 6198.