الفصل الثالث من الطوالع السعدية في بيان مهام الدعوة الفردية للحبيب محمد بن عبد الرحمن السقاف

كتاب الطوالع السعدية في بيان مهام الدعوة الفردية للحبيب محمد بن عبد الرحمن السقاف الداعية الإسلامي وصاحب المصنفات في مجال الدعوة، وهو كتاب مهم في بيان قضية الدعوة إلى الله بشكل عام، والدعوة الفردية بشكل خاص، ويبين للمسلم مفهوم قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة}، يبين فيه الحبيب محمد أهمية الاهتمام بأمر المسلمين ودعوتهم إلى سبيل الله، وأهمية الدعوة الفردية من خلال بيان مهمة بعث الرسل ليوقظوا قلوب العباد، وتأييدهم المنهاج الكامل، وذكر الآثار والأدلة التي تحث على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والكلام عمن هو مكلف بالدعوة الفردية، وبيان الأوهام التي تثبط الدعوة ومعاني الدعوة الفردية ومراحلها والآداب القلبية للداعية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الأوهام والتخيلات التي تُثَبِّط عن الدعوة إلى الله

 

لقد علمنا في الفصل السابق أن الدعوة واجبة على الكل ولكن إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا الأغلب من الناس مقصرين في القيام بدورهم ومسئوليتهم في هذا الأمر.
فإذا تفحصنا وجدنا لهذا التقصير أسبابًا ومعظمها أوهام وتخيلات وتصورات خاطئة وسببها إمَّا وساوس شيطانية أو أهواء نفسية، أو تأثر بأفكار سلبية، من آثار ترسبات الغزو الفكري الدخيل على الأمة، فنجد لكل صنف من الناس أسبابًا تمنعهم عن الدعوة، وبعضها متداخلة وبعضها تشمل الأصناف كلها:

أولًا: العلماء:
وهم نوعان من العلماء المخلصون الصادقون والعلماء المترسمون المشتغلون بدنياهم:
(أ) العلماء المخلصون منهم أوهام تمنعه عن الدعوة إلى الحق، وهي [1]:
1. أن يقول: إني غير عامل بعلمي … فكيف أُعلِّمه وأدعو إليه؟ وقد ورد في ذلك من الوعيد ما لا مزيد عليه! فيقال لهذا العالم: التعليم للعلم من جملة العمل به، والذي يُعلِّم ولا يعمل أفضلُ بكثير من الذي لا يعمل ولا يُعلِّم، فالعمل فرض، والتعليم فرض، فمَن ترك العمل والتعليم فرضين، ومن علم ولم يعلم عمل أحد الفرضين.
2. أن يقول: إن الدعاء إلى الله والإرشاد لعباد الله تعالى مرتبة رفيعة، ومنزلة شريفة، وهي من شأن أئمة الهدى، وأنا لست كذلك؛ فيجمله تواضعُه على السكوت عن الدعوة إلى الله. وهذا التواضع مذموم، وهو من التوهمات الفاسدة؛ لأن (الحق لا يمنع عن الحق) فعليه أن يجتهد في الدعوة إلى الله مع تحقيق والانكسار، وذلك هو الكمالُ.
3. أن يشغل نفسه بمواصلة الأوراد والعبادات، ويرى أن ذلك أفضل من الدعوة إلى الله. الحق أنَّ الدعوة إلى الله مع الإخلاص أفضل من نوافل العبادات اللازمة لتعدي النفع إلى الغير، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي» [2]. ولكن يجب أن يرتِّب أوقاته، فيجعل وقتًا للدعوة والتعليم، ووقتًا للعبادة والأوراد فلا يقصِّر في أحدهما.
4. أن يقول إذا خاطبه أحد بالدعوة: أنه لا فائدة من دعوتي مع انتشار الفساد وغلبة الباطل القائم في الناس.
ونقول لهذا: إن المقصود من الدعوة إلى الله هو البلاغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع بذلِ الجهد وتحقيق الصدق والإخلاص، أما هداية الخلق فأمرها إلى الله قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: ٥٦]. وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: ٤٨].
وكذلك فإن إذا كثر الدعاة والمرشدون رفع الله البلاء عن الناس والباطل لا يقف أمام الحق مهما كان شديدًا، قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ١٨]. وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧].
(ب) العلماء المترسمون المشتغلون بدنياهم [3].
وتمنعهم عن الدعوة عدة أسباب:
1. اشتغالهم بدنياهم وأمور معاشهم، ومداهنة أهل الباطل.
2. التسويف وتزجية الأوقات من حين إلى حين.
3. توهم أحدهم أنه لو دعا إلى الخير انكشف حاله للناس وسوء فعله وقبيح سيره، فيسقط بذلك من أعين الناس وهو حريص على ذلك.
4. منهم من يشتغل بالعلوم غير النافعة في الدعوة إلى الله والترغيب والتخويف؛ كاشتغال البعض بعلم الكلام وغيره أو التوسع في علوم الآلات.

ثانيًا: طلاب العلم:
وقد تثبط طالب العلم نفس الأسباب السابقة للعلماء وكذلك:
1. أن يتوهَّم أن الدعوة وظيفة العلماء، فيقول: لابدَّ لي أن أتضلع في العلم أولا حتى أصل إلى رتبة عالية فيه، ثم بعد ذلك أدعو وأعلم.
وهذا قد تدخل عليه شبهة في نيته، وخلل في قصده، فإن كان حقيقة قصده بالتعلم النفع؛ فباب النفع مفتوح له باستمرار مع عدم النقص عليه في التعلم، والعلم يزكو بالإنفاق.
كذلك فإن طالب العلم الصادق مع الله في طلبه كلما ازداد علمًا ازداد معرفة بجهله، فلا سبيل إلى أن يرى نفسه متضلعًا، والذي يرى نفسه أنه متضلع في العلم، وصالح للدعوة، فهذا قد يكون مصابًا بالعجب بنفسه والعياذ بالله.
2. أن يخاف أن يسأل فيحرج أو يخطئ أمام الناس فيستصغرونه، وهذا من أمراض القلوب، وإرادة الرفعة والتفات الخلق إليهن وعدم قبول المذلة في سبيل الله؛ وقد كان كبار الصحابة رضوان الله عليهم إذا سُئلوا عن شيء لا يعلمونه قالوا: لا نعلم.
3. أن يقول: لعلني أخطئ فيعاقبني الله على ذلك، وهذا نقول له: يجب أن تفرق بين الدعوة إلى الله، وحَدْوِ الناس إلى الله بالترغيب والترهيب، والتذكير بأيام الله وآلائه وبوعده ووعيده، وبين الفتوى والتدريس، وكذلك فلا عليه أن يقول ما يعلم، ويسكت عما لا يعلم [4].

ثالثًا: أصحاب المناصب والمقامات:
وقد تعرض لهؤلاء بعض المثبطات السابقة، كذلك:
1. أن يتوهَّم أحدهم أن وظيفته هي إقامة مظهر المنصب والمقام الذي هو فيه، وأن ذلك يعتبر منه كفاية في الخدمة، وهذا نقول له: كما أن الله شرفك بهذا المنصب، فلابد من أداء حق الله فيه، وهو استخدامه في خدمة دينه وشرعه.
2. أن يكون همه هو التفاف الناس حوله، وتعظيمهم له. وهذا نقول له: اتق الله في هذا المظهر الذي جعلك الله فيه، واعلم أن الله قادر على تبديلك وتبديله، فعليك أن تستغل محبة الناس والتفافهم عليك بدعوتهم إلى الخير.
3. قد يتوهم أنه إذا دعا إلى الخير والتمسك بتعاليم الدين أن كثيرًا من الهيشات [5] الذين حوله سينفرون عنه؛ لأنه شقاق على نفوسهم، وهذا نقول له: ليس المقصود هو اجتماع أكبر عدد ممكن ولكن نوعية الناس وتأثرهم بهذا المنصب هو المهم. وكذلك على صاحب هذا المنصب أن يدعو من حوله برفق حتى لا ينفروا عنه.
4. عدم الفهم لما أنشئتْ من أجله هذه المقامات والمناصب.

رابعًا: العوام:
والأوهام التي تعرض لهؤلاء أكثر من غيرهم لغلبة الجهل، فمن هذه الأوهام:
1. أن يقول أحدهم: يجب عليَّ أولًا أن أؤمِّن مستقبلي وأجمع المال وأبني المنزل، ثم بعد ذلك أدعو إلى الله.
2. أن يقول بعضهم: أنا غير مخاطب بالدعوة إلى الله، وإنما هي وظيفة العلماء. وهذا نقول له ما تقدم في الفصل الثاني من مسئوليات العامي في الدعوة إلى الله.
3. الفهم الخاطئ لمعنى الدعوة إلى الله:
(أ) يظن بعضهم أن الدعوة منحصرة في التعليم والوعظ والتذكير وهو لا يحسن ذلك. وهؤلاء نقول لهم: إن الدعوة إلى الله تشمل جميع الخدمات والسلوكيات باليد، واللسان، والقلب، فالزيارة في الله دعوة، والابتسامة العذبة دعوة، والدعاء دعوة، وهكذا.
(ب) يظن بعضهم أن المقصود من الدعوة هو دعوة الكفار إلى الإسلام فقط. وهذا مفهوم خاطئ، فالدعوة تشمل جميع الخلق، المسلم والكافر، فإن من المسلمين الفساق والعصاة.
4. يقول بعضهم: «دع الخلق للخالق، إذا شاء هداهم وإذا شاء أضلهم». قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ٢٧٢]. وهذا نقول له: لقد فهمت القرآن على غير وجهه، فإذا كان الأمر كذلك فما الداعي من إرسال الرسل وإنزال الكتب.

 

[1] الفقرات ذوات الأرقام 1و2و3 من كلام البركة الإمام الحداد بتصرف من كتاب الدعوة التامة.
[2] رواه الترمذي عن أبي أمامة، وقال: حسن صحيح 2609، والدارمي 291.
[3] الدعوة التامة ص 26.
[4] بتصرف وزيادة من مقدمة الدعوة التامة ص 26.
[5] الهيشات: الجماعات المختلطة.