الحلقة الثانية من سلسلة المقابلات مع فضيلة الشيخ عبد الكريم تتان

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحلقة الثانية من الحوار مع الشيخ عبد الكريم تتان
الخميس 12 شوال 1430 – 1 أكتوبر 2009
أجرى الحوار: ماهر سقا أميني
نتابع في هذه الحلقة الثانية الحوار مع فضيلة الشيخ عبد الكريم تتان حفظه الله

سؤال: فضيلة الشيخ، نستطيع أن نقول أنك ابن التحصيل في المساجد أكثر من كونك ابن التحصيل الجامعي ماذا يمكن أن تفيدنا في دور المسجد كما يجب أن يكون؟

الشيخ: الدروس في المساجد هي حياته وروحه، وعمارة المساجد بدروس العلم والتربية الحاضنة للشباب أولى وأهم من العمارة الحسية المادية، في المسجد يتعلم الشباب القيم والسلوك السديد والآداب والحكمة والضبط بالإضافة إلى العلوم الشرعية وهذه أمور إن فقدت تحول الانسان إلى كائن مرعب لا يؤمن جانبه، وللأسف نرى اليوم أكثر الناس عازفين عن دروس العلم في المساجد، ولعل أكثرهم يكتفي بصلاة الجمعة وأحياناً بدون الاستماع إلى الخطبة التي تسبقها.

سؤال: فضيلة الشيخ، لقد قادنا الحديث إلى المنبر، هل لك أن تحدد لنا دوره وأحواله اليوم؟

الشيخ: أولاً أقول الخطابة فن عالمي عرفه العرب قبل الاسلام وعرفته الشعوب الأخرى أيضاً، خطبة الجمعة هي وجبة اسبوعية تملأ النفس عاطفة والفكر معاني وحقائق والسلوك تسديداً، وعلى الخطيب بعد أن يتمكن من حسن الأداء والإشراق من فوق المنبر أن يسير في مسارين:
– الأول: البناء المستمر وتعميق حقائق الاسلام الكبرى ومعالم الشخصية المسلمة.
– والتاني: متابعة الأحداث الطارئة والظواهر العارضة والأزمات والنوازل مما يحتاج إلى معالجة وتسديد وتبصير، ومن إلغاء المنبر أن يُنأى به عن حركة الحياة وأن يتحدث الخطيب في أمور لا تهم القاعدة الأوسع من الناس، أقول هذا مع مراعاة أدب الخطاب وعدم التجريح أو ذكر ما لا يليق بالمنبر وهو في بيت من بيوت الله، إن الخطيب أشبه بالطبيب الواعي الحصيف المتابع لسجل المريض والحاذق في تشخيص الداء وفي اختيار الدواء بناءً على علاقة ود واهتمام ورعاية، فهو يحنو عليه ويتابع أحواله، ويؤلمني اليوم أن أعداء الاسلام يقترفون جريمة بشعة في أكثر من مكان هي جريمة تفريغ المنبر وإشغاله بقضايا أخرى الأصل فيها أن تعالج في باحة المسجد لا من فوق المنبر، وديدن كل خطيب أن يعرض مسألة التوحيد ويربط بها كل ظواهر الحياة وأحداثها.

سؤال: فضيلة الشيخ، لقد جعلتم جّل اهتمامكم في دراسة وتدريس التوحيد بل جعلتم هاجسكم وأكثر جهودكم في ضبط كل طرح إسلامي على الساحة الفكرية بضوابط علم التوحيد هل لكم أن تحدثونا قليلاً عن هذا المحور الأساسي في حياتكم؟

الشيخ: التوحيد هو لب كل الرسالات التي أنزلت على الرسل قاطبة، وقد أخذ مساحة كبيرة في الرسالة الخاتمة، ومن يعش التوحيد يقيناً صادقاً يجد أنه يقي النفس من التمزق والحياة من البعثرة، والقوة من الضياع. والتوحيد تصور وسلوك، عقيدة وممارسة، حين يعاش تتحقق الحرية الحقيقية والعزة الشامخة، إن الله هو المحيي والمميت، القابض الباسط، الرافع الخافض، المعز المذل … أفبعد اليقين بهذا لا ننعتق من أسباب الذل والضعف.
هنا تأتي خطورة ما يُعرض في وسائل الإعلام والفضائيات، كثير من الشوارد والقضايا والمثيرات والملهيات والمشغلات … ولكن أين قضية التوحيد التي تصل الإنسان بالله تعالى الذي له نعمتا الإيجاد والإمداد، وقد عرفت البشرية ازدهاراً وارتقاءً عظيما يوماً ما في ظلالها؟ لنا – هنا – أن نسأل عن المساحة التي شغلتها قضية التوحيد في كل من القرآن والسنة تقريرا لها وبسطا لحقائقه والتدليل عليه ورصدا لآثاره في النفوس والسلوك وفي آفاق الحياة الإنسانية، وما المساحة التي تعطى لقضية التوحيد اليوم في الإعلام، في المناهج، وفي النشاطات الثقافية؟ وإذا كان ضلال البشرية وشقاؤها نتاج البعد عن التوحيد حقيقةً وتربيةً وسلوكاً وإعادة بناء لشخصية الإنسان، فإن كل من يغفل عن التوحيد في طرحه يكون مشاركاً في شقاء بني آدم بقصد أو بغير قصد. إن هناك مساحة كبيرة في كل من القرآن والسنة وظفت للتوحيد، حيث تناولت النصوص جميع جوانب قضيته تأصيلا وتحليلا وتدليلا ودعوة وإغارة على ضده الشرك بكل صوره وتحذيرا من نواقضه، ولو كان المجال يتسع لبسطت القول في ذلك كله لكني أكتفي بمثالين من نصين كشفا عن عمق القرآن في التناول، أجل أسوق مثالين رائعين من الأمثلة التي جاءت في القرآن يجليان العلاقة الواشجة بين التوحيد والنفس الإنسانية ويكشفان عن الآثار العميقة فيها،كما يكشفان عن التوحيد من حيث كونه محركا واعيا لحركة الإنسان في الحياة … محركا دائب العطاء ومستمر الدفع في ميادين البناء والسلوك الرباني، وهذا يفسر لنا لم كان العهد المكي على طوله معنيا بقضايا التوحيد والنبوة، والآخرة التي نحن راحلون إليها رحلة قدرية لا مناص منها، إنّ الصلاة على جلالة قدرها لم تشرع إلا في أواخر العهد المكي كما هو معلوم، ولو لم يكن التوحيد هو القاعدة الرئيسة في بناء الحياة وصياغة الإنسان وإقامة المجتمع الإسلامي بكل ميادينه وآفاقه وعباداته وأخلاقه وحلاله وحرامه وسلوكياته ومشاعره لما كان كل هذا الاهتمام الكبيربه، ولما استقر التوحيد في النفوس، لقد آن أن يفصل في مقتضياته، ويكشف عن آثاره في النفس وآفاق المجتمع والسلوك علما أن القاعدة الأساس لم تغفل في مرحلة البناء بل شد التنزيل من أزرها، وأكدها المرة بعد المرة، فما هذان المثلان ؟ المثال الأول قوله – تعالى – {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها…} [إبراهيم: ۲٤-۲٥].
المثال الثاني: قوله – تعالى – {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [الزمر: ۲٩].
فالمثل الأول رصد فيض العطاء من الكلمة الطيبة، وهي كلمة التوحيد، تنضح على الجوارح، فإذا بها جوارح ربانية السلوك، عيناً ولساناً وأذناً ويداً ورجلاً بل وقلباً نابضاً بالخير خاشعاً مخبتا نظيفاً سليماً، وما أبعد هذه الجوارح بأنوار التوحيد عن المفاسد، وما أشدها صلة بالمصالح التي تسعد بها الحياة، وسر ذلك أن جوارح الإنسان إما أن توظف بالخير أو في الشر، فإذا وضعت في برنامج كلمة التوحيد التي تقضي أن لا معبود بحق إلا الله، فإنها لا تعمل إلا وفق شرع الله حيث به تتحقق العبودية لله، فلا هوى متبع، ولا شهوة آثمة أسره تدفع طاقات الإنسان في دروب التدمير، وتنأى بها عن مسارح التعمير.
أهناك نص أجلى معاني وأنصع بياناً وأدل على أهمية التوحيد في السلوك من هذا المثل المضروب، وهنا أركز على وصف الشجرة ب “الطيبة”، والثمرات الطيبة لها جاذبيتها في رقي الحياة وصفائها وإمدادها بالطاقة النظيفة.
وأما الثاني فأمره عجيب إذ تعمق في النفس الإنسانية، ورصد أحوال القلق المزعج والتمزق الرهيب الذي يعيش فيه من لم يسلم أمره لله وحده، فالذي يخدم جماعة شركاء،أخلاقهم مختلفة ونياتهم متباينة، ومطالبهم متعادية لاتصافهم بالمشاكسة والتعاسر، لا يلقاه شريك فيه من الشركاء إلا جرّه إليه واستخدمه في أغراضه، فكم يلقى هذا من العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحداً من سادته ومالكيه بخدمة، لكثرة الحقوق عليه، وتفرق طاقاته بينهم، أما من خدم واحدا لا ينازعه فيه منازع، جمع قلبه عليه وألقى همومه في رحابه، فإذا أطاعه وحده علم منه ذلك، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأيهما أقـل تعبا، وأهـدى إلى سبيل السعادة وطمأنينة النفس، وأنت ترى أن المثل المضروب جسد حال أهل الشرك، الذين تتنازعهم الآلهة المزعومة، وحال أهل التوحيد، وهنا أركز على كلمتين وردتا في المثل “متشاكسون” وهي بجرسها تنضح اختلافا ومناكفة وإقلاقا وتذمرا على القلب الذي رضي بهؤلاء الشركاء، والثانية “سلما” وهي تعني مطلق التسليم، ولمن: لمن أقام هذا الوجود، وهو بقبضته، ولا يغرب عن علمه ذرة، ولا يخرج شيء عن قدرته وإرادته، الغني مالك الملك، وهذا يشعرك أن من أسلم له وجهه، وحط رحاله بين يديه، عاش في أمن وطمأنينة وجمع قلب، وسعادة، وعموما فكل من لم يسلم لله وحده بديع السموات والأرض لابــد من أن تتعاوره المعبودات الموهومة المصطنعة، وكفى بالهوى إلها يعبد من دون الله ممزقا، وكفى بالشهوات المستعبدة للإنسان إن لم تؤخذ من يد الشريعة مشتتة ومرهقة. أجل لو لم يكن للتوحيد إلا ما نضح به هذان النصان لكفى ولزاد على الكفاية.

سؤال: فضيلة الشيخ، ما تقييمكم إذن للفضائيات اليوم، وقد صارت بالمئات؟

الشيخ: أقل ما يقال فيها أنها تحول الحياة إلى آلة مادية دون مشاعر، وتكرس مجموعة من المفاهيم والسلوكيات التي تحول الناس إلى حضارة الآلات وحضارة الأشياء، ثم أليس في أكثر هذه الفضائيات ما يهيج الغرائز وما يحول الشباب إلى جمر يحترق، إن الأدخنة التي تنتج عن حرق النفوس بنيران الشهوات تلوث الأجواء وتنأى بالناس عن التسامي والاتزان، أضف إلى ذلك إعلاماً يروج للإلحاد والمذاهب الوجودية وإقصاء الرسالات وتغييب الحقائق والتضليل وتحريف الكلم عن مواضعه!
أما ما يسمى بالفضائيات الإسلامية فمع كثير من الخير فيها نجد منها ما يعبث بالحقائق ويؤول النصوص ويكفر الآخر وينشر الفتن ويمزق الأمة، ونجد أن كثيراً مما يعرض في أفضلها ليس مضبوطاً بضوابط الشريعة والحلال والحرام. كما تثار أحياناً بعض المواضيع الخلافية على الملأ والأصل في هذه المواضيع أنها تعرض وتناقش على مستوى النخبة من العلماء، وهذا يثير القلائل والشكوك بين الناس.
ثم ما قيمة هذا الإعلام الإسلامي إن كان يسمح لنفسه أن ينزل إلى مستوى التصويت على الحقائق الكبرى أو الأحكام الفقهية أو القيم المنبثقة من نصوص الإسلام،هل يعقل مثلا التصويت بين عينة من الشباب والشابات على حكم المرتد أو تعدد الزوجات أو حكم النقاب أو الحجاب!
ثم إن الاختلاف سنة من سنن الحياة ولكنه يعرض في هذه الفضائيات على أنه خلاف من نوع ماحق.

وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة من الحوار مع فضيلة الشيخ عبد الكريم تتان