الجزء الثاني من مقال “محمد في القرآن : التأسيس الكلامي لصيغة الشهادة” للدكتور عصام عيدو

يسلط الدكتور عصام عيدو الضوء على علاقة الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام برسالته والقرآن – كلمة الله – من خلال دراسة صيغة الشهادة، والإشارة إليه إما بالاسم وإما بالضمائر وإما بصيغة الأمر، مما يفتح باب النقاش حول المعني من الخطاب القرآني في مختلف الآيات وإذا ما كان المراد مخاطبة الرسول عليه الصلاة والسلام بعينه، أم البشرية كلها؛ ومن خلال تطرقه لمفاهيم لغوية وبلاغية وتفسيرية وكلامية، يقدم لنا في هذا البحث مدخلا مختصراً في التأسيس الكلامي لصيغة الشهادة.

بسم الله الرحمن الرحيم

تحليل اسم النبي “محمد” في النصوص القرآنية:

تضمنت هذه السور المدنية التي ورد فيها ذكر النبي محمد عدة دلالات أسست لفهم المسلمين لعلاقة القرآن بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، أو صورة النبي محمد في القرآن. ففي سورة آل عمران التي اشتملت على ذكر بيت آل عمران وقصة مريم وعيسى عليهما السلام كما اشتملت على مجموعة من النصوص المتعلقة بأهل الكتاب وبرسلهم يأتي ذكر النبي محمد عليه الصلاة والسلام في السياق نفسه ليؤكد العبرة ذاتها من سرد تلك القصص الكتابية في القرآن، وهي أن محمداً لم يكن إلا رسولاً، وما رسالته وطبيعتها وطبيعته وحياته ومماته إلا كطبيعة وحياة وممات بقية الرسل الآخرين الذين جاء ذكرهم في هذه السورة القرآنية. وفي هذا تأكيد آخر على المبدأ التنزيهي الافتتاحي في أم الكتاب “الفاتحة” المُحْكَمة – التي أتتْ كل أسمائها بأداة التعريف – الذي ينص على أن الحمد منطلقه الإبهام يشترك فيه الكل ومآله رب العالمين، وما محمَّد إلا رسول كغيره من الرسل استووا مع البشر في البشرية وامتازوا عنهم في وظيفة البلاغ، وهم أمام الله ضمير “نحن” في “نعبد” أمام “أنت” في “إياك”.

في سورة الأحزاب، وبنفس الصيغة الحصرية، تُسرَد الجملة الاسمية “وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين”، ولكن يفترق مدلول الصيغة هنا عن مدلولها في آل عمران ليصب في نهاية الأمر في نقاش كلامي حول قضية طال الجدل حولها وهي قضية ختم النبوة القضية التي حسمها إجماع أهل السنة والجماعة بناء على نصوص القرآن والسنة الواضحة والتي خالف فيها مجموعة من الفرق الهامشية التي ارتأت مجموعة من التأويلات لهذا النص بالذات ولغيره من النصوص النبوية التي جاءت صيغها بشكل مجمل وغير صريح. في هذه الآية التي اشتملت على عدد من الكلمات المفتاحية ككلمة “الأب” و”الرسول” و”الخاتم” و”النبي” “الرجال” دار جدل كلامي حول مدلول هذه الكلمات بغية فهم صورة النبي محمد في القرآن. فالآية هنا وبشكل بسيط تصوره على أنه ليس أباً لأحد. ولكنه رسول وخاتم النبيين. فما علاقة نفي الأبوة بإثبات الرسالة وختم النبوة. وما علاقة إثبات الرسالة بختم النبوة. وهل تقديم الرسالة على النبوة من باب تقديم العام على الخاص. أياً يكن فإن هذه الآية شغلت المفسرين قديماً وحديثاً ودخلت في بنية الجدل الكلامي الإسلامي فيما يعرف بباب النبوات. واستقرت صورة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وفق الرؤية السائدة على أنه رجل اصطفاه الله من بني قريش، وظيفته تبليغ رسالة رب العالمين، وبه ختم الله النبوة فكان آخر الأنبياء وأحد أولي العزم من الرسل. وأنه يولد ويموت كما يولد ويموت جميع البشر. إلا أن الله خصه بخصائص تميز بها عن غيره من البشر وكذلك عن الأنبياء منها المقام المحمود يوم القيامة.

في الآية الثالثة التي اشتملت على ذكر النبي محمد عليه الصلاة والسلام، يمكن الإشارة إلى أمرين اثنين، الأول هو أن هذه الآية وردت كآية ثانية ضمن سورة “محمد”. والآية الأولى هي “الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم”. ثم ثنيت بهذه الآية “والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم”. في هذه الآية نجد أن ذكر الإيمان بما نزل على النبي محمد عليه الصلاة والسلام مقرونٌ بالإيمان والعمل الصالح. وهذا أمر يعكس ترتيب نزول هذه السورة فهي سورة مدنية متأخرة في النزول. أياً يكن، فإن ذكر الإيمان بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام ملفت للنظر في هذه الآية إذا ما قورن بكل السياقات التي ورد فيها ذكر الإيمان بالله والعمل الصالح في القرآن الكريم سواء في الفترة المكية أو الفترة المدنية. وبالتالي فإن هذه الآية تؤسس الشطر الثاني لكلمة الشهادة “أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله” وبذلك تدخل هذه الآية في بنية النطاق الكلامي الإسلامي.

في الآية الرابعة التي وردت في سورة الفتح – والتي لا تتناغم دلالياً فحسب مع اسم السورة الافتتاحية الأولى “الفاتحة” بل تتسق مع موضوعاتها المتعلقة بالضلال والهدى والصراط – نجد أن ذكر النبي محمد عليه الصلاة والسلام جاء في صيغة الجملة الاسمية التقريرية “محمد رسول الله” وهي كأنها تقرير للفظة الشهادة السابقة “أشهد أن محمداً رسول الله” وتقرير لما جاء في سورة الأحزاب “ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله” وكذلك تقرير لما جاء في آل عمران “وما محمد إلا رسول” ففي كل هذه الآيات هناك قاسم مشترك على فكرة الرسالة. أو تقديم النبي محمد عليه الصلاة والسلام على أنه رسول. هذا القاسم المشترك الذي أكد عليه القرآن يرسم صورة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام على أنه حامل لهذه الكلمة الإلهية، أي رسول، أي أنه حامل الرسالة، فوظيفته بلاغية. وهي من هذه الجهة لم تكن من بُنى مباحث الإلهيات في علم الكلام المباحث التي تناولت ذات الله وصفاته وأفعاله وقضيتي الربوبية والألوهية. في هذه المباحث لا نجد أي ذكر للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما نجد في مباحث النبوات – وهو المبحث الثاني الكلامي – نقاشات حول بشرية الأنبياء ووحدة مصدر شريعتهم، وقضية ختم النبوة القضية الكبرى التي أشار إليها القرآن المدني في سورة الأحزاب.

تحليل الحضور الاسمي للنبي محمد في القرآن:

هذا الحضور الاسمي للنبي محمد عليه الصلاة والسلام لا يلغي حضوراً كبيراً له من خلال الخطاب الإلهي العام في القرآن الذي أشير إليه آنفاً. الخطاب الذي دار الجدل حوله، هل يفسر أو يترجم على أنه موجه إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالدرجة الأولى أو أنه خطاب موجه للبشرية وذلك كالخطاب في قوله تعالى “يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً” فمن المعلوم أن هذه الآية وردت بعدما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام الوحي (جبريل) وأمره بالقراءة “اقرأ باسم ربك الذي خلق”، وأوجس خيفة منه، وطلب من زوجته خديجة أن تزمله كما هو معلوم في مشهور السيرة وصحيح الأحاديث. فهل يضع المسلم في حسبانه عندما يقرأ هذه الآية في صلاته أو في تلاوته التعبدية للقرآن أن الخطاب موجه للنبي محمد عليه الصلاة والسلام في لحظة تاريخية معينة متعلقة بقصة معينة أم أنه يقرأها كخطاب عام موجه إليه؟ تكاد تذهب الكتب التفسيرية التقليدية جميعها إلى القول الأول في مثل هذه الحالة وغيرها من الحالات التي وردت في خصوصها نصوص السيرة والأحاديث المشهورة الصحيحة وأن المراد في مثل هذا الخطاب هو النبي محمد عليه الصلاة والسلام. لكن هذا الرأي السائد لا يقف حائلاً أمام الذاهبين إلى القول الثاني الذين يعتقدون أن هذا الخطاب خطاب عام موجه إلى كل مسلم يقرأ كتاب ربه.

الحضور الاسمي للأنبياء في القرآن مقارنة بالنبي محمد:

لكن اللافت للنظر أن الحضور الاسمي الضئيل للنبي محمد عليه الصلاة والسلام في القرآن رافقه حضور مكثف لغيره من الأنبياء خاصة أولئك الأنبياء الذين أشارت إليهم النصوص الإسلامية بأنهم “أولو العزم من الرسل” كإبراهيم ونوح وموسى وعيسى عليهم السلام. فبإحصائية سريعة، نجد أن إبراهيم عليه السلام ورد اسمه في القرآن المكي والمدني حوالي سبعين مرة، ونوح حوالي خمس وأربعين مرة، وعيسى – الذي ورد اسمه أحياناً بلفظة عيسى وأحياناً بلفظة المسيح – ورد اسمه حوالي خمس وثلاثين مرة. الأكثر وروداً هو النبي موسى عليه السلام، فقد ورد اسمه حوالي مئة وخمس وثلاثين مرة. هذا الورود لم يكن مقتصراً على فترة واحدة من الفترات القرآنية، أعني الفترة المدنية أو المكية، فقد غطى الورود الفترتين. لكن يلاحظ بشكل عام أن أغلب السياقات التي ورد فيها ذكر هؤلاء الأنبياء في السور المكية لم تكن سياقات جدلية، أي لم تكن في سياقات الجدل مع أهل الكتاب، وإنما في سياقات سرد قصص الأنبياء السابقين، في حين أن القرآن المدني أعاد سرد تلك القصص في سياق جدل كلامي مع أتباع الديانتين اليهودية والنصرانية. والمثال الأبرز لهذين السياقين يمكن دراسته في قصة النبي عيسى عليه السلام في سورة “مريم” المكية، وسورة “آل عمران” المدنية.

الغاية من الحضور الاسمي للنبي محمد وغيره من الأنبياء في النصوص القرآنية:

أياً يكن، فإن المسلم أمام هذا الحضور الاسمي المكثف لهؤلاء الأنبياء المعروفين بأولي العزم من الرسل ولغيرهم من الأنبياء الآخرين وبعد قراءة معمقة للقرآن الكريم آخِذَةٍ في الاعتبار البعد التنزيهي الذي أكدت عليه سورة الفاتحة في بدايتها وبعد التأمل في نهايات تلك القصص القرآنية التي ختمت في مجملها بعبارات كتلك التي تقول: “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” و”ما كان حديثاً يفترى” يدرك أن الأساس لتقليل الحضور الاسمي للنبي عليه الصلاة والسلام وتكثيف الحضور الاسمي للأنبياء الآخرين منبعه واحد وغايته جوهرية تقوم على قضية التنزيه، القضية التي شغلت القرآن المكي بأجمعه والتي تأسست عليها الصيغة الأولى للشهادة “أشهد أن لا إله إلا الله”. لذلك نجد أن سياقات ورود الحضور الاسمي للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ما هي إلا تركيز على الصيغة الثانية وهي قضية الوظيفة التبيلغية “محمد رسول الله”. وعلى ضوء هذا يمكن فهم النصوص القرآنية التي سُرِدت من خلالها قصص هؤلاء الأنبياء سواء هؤلاء الذين حملوا شريعة أو لم يحملوا وسواء أكانوا من أولي العزم أو من غيرهم.