الجزء الأول من مقال “محمد في القرآن : التأسيس الكلامي لصيغة الشهادة” للدكتور عصام عيدو

يسلط الدكتور عصام عيدو الضوء على علاقة الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام برسالته والقرآن – كلمة الله – من خلال دراسة صيغة الشهادة، والإشارة إليه إما بالاسم وإما بالضمائر وإما بصيغة الأمر، مما يفتح باب النقاش حول المعني من الخطاب القرآني في مختلف الآيات وإذا ما كان المراد مخاطبة الرسول عليه الصلاة والسلام بعينه، أم البشرية كلها؛ ومن خلال تطرقه لمفاهيم لغوية وبلاغية وتفسيرية وكلامية، يقدم لنا في هذا البحث مدخلا مختصراً في التأسيس الكلامي لصيغة الشهادة.

بسم الله الرحمن الرحيم

من اللحظة الأولى التي نزل فيها الوحي على النبي محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء استقبلت البشرية من جديد خطاباً سماوياً يخاطب فيه ذاتاً مبهمة قد تكون ذات النبي محمد عليه الصلاة والسلام كما تؤكد على ذلك جملة من التفاسير والترجمات القرآنية عندما تقوم بتفسير وترجمة الآية القرآنية الشهيرة “اقرأ باسم ربك الذي خلق” فتضيف عند تفسيرها للأمر الإلهي “اقرأ”، (أي يا محمد). بينما استقبلت تفاسير وترجمات أخرى هذه الأوامر على أنها إطلاقاتٌ مجردة عن شخصية النبي عليه الصلاة والسلام أو أنها كانت في البداية له ولكن الرسالة الأساسية المقصود منها هي الإنسان.

الفاتحة والأساس التنزيهي:

هذه الثنائية التي تظهر من خلال الأوامر الإلهية والتي تتجلى من خلال الإله الآمر والعبد المأمور نبياً أو إنساناً تختفي كلياً في السورة الافتتاحية المكية التي حملت عدداً من الأسماء ذات المعاني الجوهرية وذلك كاسم “أم الكتاب” و”السبع المثاني” و”الفاتحة” و”الحمد”. في سورة الفاتحة – التي أقرتها نصوص الشريعة الإسلامية على أنها الصيغة النصية للاتصال بين الله والعبد يومياً عبر خمس صلوات يقرأها المسلم عدداً من المرات والتي وصفتها مجموعة من الأحاديث على أنها الصيغة التي من خلالها تتناصف الصلاة بين الله والعبد – نجد أن شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام تغيب كلياً من أول السورة إلى آخرها ولا تحضر إلا عبر الاشتقاق، أي اشتقاق اسمه “محمد” من كلمة “الحمد” الكلمة الأولى التي ابتدأت بها السورة. في هذه السورة التي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، حمد، استعانة، والدعاء عبر جملة اسمية ففعلية تلعب الضمائر دوراً كبيراً في فهم البنية الكلامية وما تشتمل عليه من تفاصيل أهمها فهم طبيعة علاقة النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن. ففي المقطع الأول الذي يشتمل على جملة اسمية ابتدأت بالحمد، وهو الاسم “المصدر” الذي اشتَّق منه اسم المفعول “مُحمَّد” والذي يفترض ضمنياً أن هناك محمِّداً سواء كان الخالق أو المخلوق. وبالابتداء بـ “الحمد لله رب العالمين” امتزج الكل (الخالق والمخلوق والنبي محمد) في فعل “الحمد” عبر تمجيد تنزيهي لا نعرف مصدره ومنطلقه، هو “الحمد” فقط. ولكن نعرف مآله ومستحقه وبمن يختص “لله رب العالمين”.

بهذه الصيغة التكرارية لم تؤسس الفاتحة مجرد صيغة شعائرية طقسية ترنيمية يتلوها المسلم، وإنما صيغة تشتمل على بنية كلامية تنزيهية تحدد بإبهاميتها تنزيهاً واضحاً. فالإبهام مراد. هذا الإبهام ينتقل فيما بعد إلى المقطع الثاني والثالث من سورة الفاتحة، المقطع الذي يحتوي على الاستعانة والدعاء عبر صيغة متجددة “نعبد” “نستعين” وعبر الدعاء بـ “اهدنا” عبر ضمائر تدور بين أنت (الله) وبين نحن دون تمييز بين النبي محمد والناس. في هذه السورة هناك تأسيس لفهم علاقة النبي محمد بالقرآن، وهو تأسيس للمفهوم التنزيهي أو التجريدي وبناء الصلة بين الإنسان والله بشكل مباشر. هنا يصبح النبي محمد عليه الصلاة والسلام حاملاً للوحي أو حاملاً للكلمة. من أجل ذلك ربما لا نجد في كتب علم الكلام الإسلامية جدلاً كلامياً حول شخص النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فهناك جدل أصولي حول قضية الاجتهاد والخطأ، ولكن القرآن أسس بوضوح علاقة النبي محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن وقدمه كحامل للكلمة الإلهية فهو في السياق الإسلامي كمريم في السياق المسيحي. مريم التي حملت الكلمة، مريم التي لم يتأسس الجدل الكلامي حولها وإنما تأسس الجدل الكلامي حول المسيح كلمة الله كما تأسس الجدل الكلامي حول كلمة الله القرآن.

صيغة “الحمد” في القرآن:

كلمة الحمد “ح، م، د” وردت في القرآن بعدة صيغ منها المصدر “الحمد” وأتت مضافة لكلمة “الله”. ووردت بصيغة “حمد” مضافة إلى “رب” “سبح بحمد ربك”. ووردت بصيغة المبالغة من اسم الفاعل “الحميد” وأتت مركبة مع عدد مع الصفات “غني حميد” “الغني الحميد” “الولي الحميد” “حميد مجيد” “العزيز الحميد” حكيم حميد”. ووردت مضافة إلى الصراط “صراط الحميد” ومركبة مع صفة “العزيز”: “صراط العزيز الحميد”.

لم تذكر كلمة الحمد في القرآن مضافة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وإنما وردت مضافة فقط إلى لفظ الجلالة أو كلمة الرب. وكذلك فإن الصيغة المبالغة من اسم الفاعل “حامد” الذي يصدر منه الحمد لم يوصف بها في القرآن إلا الله سبحانه وتعالى. فهو الذي يصدر منه الحمد.

لم يأت ذكر كلمة “الحمد” في القرآن بصيغة المفعول إلا في وصف النبي محمد عليه الصلاة والسلام أو وصف مقامه مرة بذكره كما هو اسمه “محمد” ومرة بصيغة المفعول “محمود” وصفاً للمقام الذي سيبعثه ربه عليه يوم القيامة.

الصيغة الفريدة التي وردت في القرآن في هذا السياق هي صيغة “أحمد” في سورة “الصف” وهي قول الله تعالى على لسان نبيه عيسى عليه السلام: “ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد” بهذه الصيغة التفضيلية “أحمد” التي تفترض أن هناك حامد وأحمد.

أياً يكن فإن كلمة “محمد” وردت في القرآن أربع مرات:

  • {وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} [الأحزاب: ٤٠]
  • {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: ۱٤٤]
  • {وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم} [محمد: ۲]
  • {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: ۲٩]

من اللافت للانتباه أن صيغ اسم المفعول كلها وردت في الفترة المدنية ولم يرد أي منها في الفترة المكية. وإذا أردنا التركيز على الاسم “محمد” فإنه ورد في أربع سور مدنية عنونت واحدة منها باسم النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهي السورة السابعة والأربعون حسب ترتيب المصحف العثماني. بالإضافة إلى هذه الأماكن الأربعة ورد ذكر النبي محمد بصيغة أحمد بسياق البشارة به من قبل النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف “ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد” وهي أيضاً سورة مدينة.