الجزء الأول من مقال المسائل الوجودية في المنظور القرآني للدكتور عصام عيدو

الشيخ الدكتور عصام عيدو أستاذ الدراسات العربية والإسلامية والمتخصص في علوم الحديث، يقدم طرحا في المسائل الوجودية في المنظور القرآني، يشمل الكلام فيه عن التفكر والتعقل في إطار السياق القرآني، وخاصة الوارد في قصة إبراهيم عليه السلام وسؤالاته لربه التي تبعث على التأمل، وهي سؤالات تتعلق بالحياة والموت، التي هي مسألة وجودية لا يمكن للإنسان النفاذ إليها، ويشمل الحديث كذلك عن اطمئنان القلب حول قضية الوجود، وتلك أمور تدعو إلى التفكر والتعقل وعدم اتباع فكر الآباء فيما هم عليه؛ لأن الإنسان بذلك يخرج عن حدود وقيود الزمان والمكان؛ كما خرج إبراهيم عليه السلام فكان أمة قانتا لله كما وصفه الله تعالى في كتابه.

بسم اله الرحمن الرحيم

مقدمة أساسية:

لم يكن اعتناء النص القرآني بالمسائل الوجودية فقط بذكرها وسردها ومعالجتها وإنما ببيان مقدمات أساسية وجوهرية نقرأها في كل سورة وفي أماكن مختلفة أهمها التركيز على قضية التفكر والتعقل والتدبر، القضية التي جعلها القرآن الأساس في علاقته مع قارئه، وبيان أن اتباع الآباء عمى وضلال. قدم النص مسألة الآبائية على أنها عائق جوهري في تقدم الإنسان نحو فهم ذاته ومجتمعه والكون حوله وبالتالي فهم خالقه ومسائل الوجود. {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة: ١٧٠] فعلى رغم أن الآباء سبب مادي في وجود الأبناء، إلا أن الآباء وفق النص القرآني ربما يكون عائقاً في فهم الإنسان لرسالته في هذا الكون. وعليه فإن كل إنسان مطالب بفهم مسائل الوجود انطلاقاً من قراءته الذاتية وليس من اتباعه الأعمى لآبائه وأجداده. في سياق الآبائية نجد نقاشات مهمة ومثيرة في النص القرآني تتعلق بسيرة النبي إبراهيم مع أبيه وقومه وتفكره في المسائل الوجودية الكبرى التي تتعلق بالأفول والحياة والموت وغيرها.

النبي إبراهيم والمسائل الوجودية في النص القرآني:

قدم النص القرآني النبي إبراهيم عليه السلام كشخصية رمزية من خلال الحديث عنه أنه خليل الله وأنه أمّة وأمر الناس باتباع ملته الحنيفية الخالية من الشرك. وفي تقديمه هذا استعرض النص القرآني مسائل وجودية بالغة في الأهمية، ولم يقدمها النص القرآني بشكل مفصل وواضح ومرتب وإنما قدمها في سياقات مختلفة وباعثة على التأمل. المسألة الوجودية الأولى هي مسألة الحياة والموت، المسألة التي شغلت عقل النبي إبراهيم عليه السلام والتي دفعته إلى سؤال ربه بشكل واضح وصريح: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: ۲٦٠]، ولكن النص القرآني كعادته في سرد بعض النصوص المشفوعة بحرف “إذ” يسردها بعد ذكر نهاية القصة ومؤداها. فنهاية القصة ذكرت قبل هذه الآية بآيتين عندما قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت} [البقرة: ۲٥٨]. إن اختيار إبراهيم لهذه الحجة كحجة أساسية أمر في غاية الأهمية وهو ينطوي على مسألة وجودية كبرى في النص القرآني، وهو في الوقت نفسه يفسر لنا بشكل واضح سعي إبراهيم لمعرفة كيفية إحياء الموتى عندما سأل ربه: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} إن قضية اطمئنان القلب التي أشار إليها إبراهيم حيال هذه المسألة الوجودية كانت نابعة من الشك، وهي مسألة ساورت قلب إبراهيم وأراد لها الحسم، وأراد لها فيما بعد الفصل بين الغيب والشهادة، بين طاقة الإنسان وقدرة الله، وبين قدرة البشرية وقدرة المعبود، بين قدرة المخلوق وقدرة الخالق. وقد برهن الله له دون أن نعرف حقيقة تحصّل اليقين عند إبراهيم بعد تنفيذ ما أمره الله عندما قال له: {فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم} يبدو في هذه الآية أن إبراهيم أدرك قدرة الله في إعادة أجزاء هذه الطيور إلى بعضها ومن ثم إعادة الروح إليها. ولكن من المؤكد أنه لم تتحصل لديه القدرة بنفسه على إحياء الموتى. حيال هذه المسألة الوجودية التي لا تزال غامضة في السياق الإبراهيمي ولكن التي تناولها القرآن بوضوح في سياقات أخرى كما سيأتي لاحقاً. نجد أن إبراهيم تجاوز هذه الحجة الأساسية الأولى في جداله إلى المسألة الوجودية الثانية وهي الحجة الثانية المُفحِمة والتي يبدو أنها شغلت فكر النبي إبراهيم عليه السلام وعقله كما نقرأ في سورة الأنعام عندما جادل قومه وأباه في الأصنام والكواكب التي يعبدون: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين} [الأنعام: ٧٤] هذه الأصنام التي أثبت النبي إبراهيم لقومه بطلانها عبر حجة أساسية تتعلق بمسألة وجودية كبرى هي مسألة الحدوث والعدم والقدم والتغيرات والتسلسل والخلق والأفول. ومفتاحها لخصه القرآن في آيتين: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: ٧٥]، وآية {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: ٨۳] إذن هي الحجة الوحيدة والأساسية المُسكِتة التي سيستخدمها النبي إبراهيم عليه السلام مع قومه والتي تبدأ في النظر في ملكوت الله (الغيب) وليس عبر اتباع الآباء، والتي ستكون محور الجدالات الكلامية فيما بعد في كل السياقات الفلسفية والدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية والتي ستبنى عليها الكثير من المسائل الكلامية المتعلقة بقضايا قدم العالم وحدوثه وبدايته ونشأته وتغيرات الكواكب بل وأكثر من ذلك ستكون الأساس الكلامي للمحنة الكبرى في تاريخ الإسلام وهي محنة خلق القرآن.

عبر هذا التسلسل المنطقي  في سورة الأنعام {فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكون من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} [الأنعام: ٧٩]، هذا التسلسل التدريجي من الكوكب إلى القمر فالشمس مثير للانتباه في قضية علاقة الإنسان بسطوع الحق وبيانه، فالشمس في بيانها ليست كالقمر، والأمر كذلك للقمر بالنسبة للكواكب. ولكنها كلها في أضوائها في نهاية الأمر آفلة وزائلة. وهذا الأفول هو محور الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه وهي محور الحجة الكبرى التي تتعلق بالمسألة الوجودية الدينية التي تدور حول الحياة والموت والغيب والشهادة والملك والملكوت، والدنيا والآخرة. لهذا، فإن توجيه الوجه الذي هو زائل وآفل كالأفلاك نحو فاطر السموات والأرض يجعله أبدياً سرمدياً. إن هذه الحجة التي علمها الله إبراهيم عليه السلام أرست نقاشاً كلامياً عميقاً في كل الديانات التوحيدية، وبشكل خاص في الدين الإسلامي وانبنى على هذه الحجة مدارس كلامية وأدبيات مطولة.

بالرجوع إلى سورة البقرة نجد أن هذه الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه كانت الحجة الثانية التي اعتمد عليها إبراهيم في إسكات خصمه عندما قال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب}. إن قدرة إبراهيم على التفكر في ملكوت الله وفهم حركة الكواكب وجريانه خوّلته استخدام هذه الحجة التي تبدو لأول وهلة بسيطة إذا راعينا مسألة الأفول. ولكن إذا راعينا مسألة الجهات ومسألة شروق الشمس وغروبها، فإنَّ الحجة تبدو مركبة معقدة. ولذلك كان الجواب: {فبُهِت الذي كفر}.

لم يقدم النص القرآني المسائل الوجودية كنص سردي وصفي، وإنما قدمها بوصفها مسائل إيمانية، ولا تكمن قيمتها إلا بالقيمة الكبرى الإيمانية التي تكمن وراءها. لا معنى لفهم الإنسان لقضية الحياة والموت إن لم يكن هذا الفهم سبباً في أن يمتد جسده المادي إلى عالم أوسع من عالمه المادي الذي يعيش فيه، وبالتالي تتحول شهادته إلى غيب، ويتحول عالم الملك إلى عالم الملكوت. في هذا التحول لا ينتقل الإنسان بفكره من أسر الصورة إلى فضاء التجريد فقط ولكن يكتسب بذلك السعادة التي لا تقتصر على حدود عالمه المادي. هذه التحول كثفه النص القرآني في هذا الوصف: {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض} هنا يخرج الوجه الذي وضع في أصله الطيني ليكون مكاناً للجهات الستة فيسبح في عالم الملكوت حيث لا جهات ولا زمان ولا مكان. إن فهم هذه الرمزية مهم في فهم الشخصية الإبراهيمية وفهم كل الصفات التي أوردها الله في شأنه مثل: {إن إبراهيم أمة} [النحل: ١۲٠] ففي حجة إبراهيم الخارجة عن قيود الزمان والمكان والنابعة من توجه الوجه إلى فاطر السموات والأرض يصبح الشخص أمة حقيقية. وهو ما حصل حقيقة في شأن إبراهيم ولذلك أمر الله الناس باتباع ملته {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [البقرة: ١۳٥]، {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} [البقرة: ١۳٠].

الحياة والموت:

            من المسائل الوجودية التي عني بها النص القرآني بشكل جلي مسألة الحياة والموت، فقد تكرر في النص القرآني ذكر الحياة الأولى والثانية والموتة الأولى والموتة الثانية كما في الآية التالية: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} [البقرة: ۲٨] وهي آية تعبر عن دوران الإنسان في فلك متجدد من الموت والحياة، وهي فكرة تؤكد المسألة الوجودية التي تمت الإشارة إليها سابقاً عند الحديث عن إبراهيم وهي فكرة الأفول وفكرة الوجود الغيري أو الوجود الإنساني الذي يفتقد إلى وجودٍ حقيقي ذاتي يمده. هذا الحدوث والتجدد الذي يراه ويلمسه الإنسان بشكل دائم والذي يقرأه في النص القرآني يدعوه للتفكر والتدبر الدائم في وجوده ومحدودية عالمه المادي ومحدودية الزمن الذي يعيشه. وفوق ذلك فإن الله في سورة “الحج” تحدى الناس جميعاً عبر امتحان وجودي قاسٍ يقول فيه: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذي تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: ٧۳] في هذه الآية التي تقول بشكل غير مباشر إن الإنسان غير قادر فعلياً على خلق شيء يشبه ذاته. بمعنى آخر، هذه الآية توجه تحدياً وإعلاناً للإنسان فحواه: أنت حرٌ من عبودية الله في حال قدرتك على خلق ذاتك. والتصوير بالذباب كان لأجل المبالغة، والقضية الأساسية أن الله تعالى يصرح في القرآن أن مسألة الحياة والموت مسألة وجودية لا يمكن للإنسان النفاذ إليها ولا يمكن له التحكم فيها ولا يمكن له أن يغير مسارها، وأن تغيير مسار الحياة والموت هو تغيير في القدرة الإلهية، وأن هذا التغيير هو بمثابة الحرية من هذه المنظومة الكونية التي خطها الله عبر هذه المسألة الوجودية التي لخصها الله في هذه الآية {وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون} [المؤمنون: ٨٠] {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها  وكذلك تُخرجون} [الروم: ١٩] {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون} [الروم: ٤٠] {إن الله لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الروم: ٥٠] وهو الذي صرح به النبي إبراهيم عليه السلام: {والذي يميتني ثم يحيين} [الشعراء: ٨٠]. إن مسألة الحياة والموت هي جوهر الوجود الإنساني على هذه الأرض هي الكينونة التي عبر الله عنها من خلال هذا التركيب {كن فيكون} [يس: ٨۲] حيث قال في كتابه: {هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}.