إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (14) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المسألة الرابعة عشرة: من آمن بالله
ومعنى {من آمن بالله} الإيمان الكامل[1] الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق أو استحقاق العبادة، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه جلت صفاته ليس كمثله أحد، وهو السميع البصير، والإيمان بالله تعالى يتضمن الإيمان بوحدانيته وأسمائه الحسنى، وأنه الخالق وحده، والمهيمن على الوجود وحده، وأنه الأزلي الذي ليس له ابتداء، والباقي الذي لا يعروه الفناء، وأنه لا يشبه أحدا من خلقه، وليس كالأشياء، وهو منزه عما تتصف به الحوادث إلى آخر كل ما يقتضيه التنزيه، فالنصارى الذين يقولون بالتثليث ليسوا مؤمنين بالله سبحانه، وكذلك الصابئة الذين يعبدون الكواكب واليهود الذين أشركوا في أوقات كثيرة وعبدوا الأصنام وخلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة، وبعضهم قال عزير ابن الله ووصفوا الله بما لا يليق به بل لا يليق بالبشر فضلا عن الله سبحانه؛لأن القرآن الكريم نص في مواضع كثيرة أن من أشرك مع الله إلها آخر هو لا يعبد الله، فلذلك نجد تعبير {من دون} يرد كثيرا في نحو {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} أي متجاوزين عبادة الله، مع أنهم كانوا يعبدون الله وغيره، وقد نص القرآن نصا واضحا على أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله؛ لأنهم لم يؤمنوا به على الوجه اللائق، ونص كذلك على أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر وانهم لا يدينون الدين الحق وأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فاليهودية والنصرانية ليست الدين الحق، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا): (من) بيانية، أي بيان للذين مع ما في حيزه، نفى عنهم الإيمان بالله؛لأنّ اليهود يقولون: عزير ابن الله وهم يشبهون الله تعالى بخلقه ويصفونه بأوصاف لا تليق بالبشر فضلا عن خالق البشر،و كثير من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة، والنصارى مثلثة: فهم يقولون: بالأب والابن وروح القدس؛ والحلول والاتحاد، وكل ذلك ينافي الإلهية، وهم يضيفون إليه سبحانه ما لا يليق به فكأنهم لا يعرفونه، وإيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان لأنهم فيه على خلاف ما يجب، والفريقان قد ألصقوا باليوم الآخر تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء: كقولهم: {لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر.
وهم لا يحرمون ما حرّم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة.
لا يدينون دين الحق: فهم لا يعتقدون دين الإسلام هو الحق وما سواه باطل، وهم أيضا أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاءت به كتبهم، وإنّما دانوا بما حرفوا منه، ومَا أنكروا منه، وما ألصقوا به، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام الذي أوصاهم أنبياؤهم باتباع ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما أوصتهم رسلهم، {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون} [آل عمران: 81 83].
، والمراد (برسوله) في {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله؛لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم[2] ، فكيف يأتي أناس في زماننا يقولون: لا يجب على الناس اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بل يجب عليهم فقط الإيمان به وهذا كافٍ مُنْجٍ.

 

[1] قال ابن عاشور: ” ومعنى {من آمن بالله} الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله: {وعمل صالحاً} إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعي لقوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17]. وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق. وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} [آل عمران: 85] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين: ” ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بي فله أجران “، التحرير والتنوير (1/ 539)، قال أبو زهرة:”والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بالله باعتقاد وحدانيته في الخلق والتكوين بألا يعتقدوا أن أحدا شارك الله تعالى في إنشائه الخلق، وأنه وحده خالق كل من في الوجود وأنه لا تخرج حركة عن حركة في الوجود، وإنما ذلك قيوميته وإرادته، وأنه ليس بوالد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه جلت صفاته، فليس كمثله أحد، وهو السميع البصير، وأن يؤمن باليوم الآخر وما فيه من حساب، وثواب وعقاب، وأن يؤمن بملائكته وكتبه ورسله هذا هو الإيمان فمن آمن من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الإيمان، وأردف إيمانه بالعمل الصالح الذي يكون طاعة لله تعالى وفيه صلاح الناس؛ {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وكذلك من آمن من اليهود بالله والملائكة الأطهار والرسل الأمجاد ومنهم محمد بن عبد الله رسوله الأمين، علم أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء وعمل صالح {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وكذلك النصارى إذا آمنوا بالله ورسله وأنه ليس بوالد ولا ولد {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. هذا هو الإيمان بالله حق الإيمان، وكذلك الصابئون من توافر فيهم ذلك الإيمان الموحد بالله تعالى في الخلق والتكوين والعبادة وآمن بالغيب، وملائكته وكتبه ورسله عامة ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، هؤلاء إذا آمنوا ذلك الإيمان، وأخلصوا لله ذلك الإخلاص وقووا إيمانهم بالعمل الصالح الذي يكون فيه الطاعة لله ولرسوله والاستجابة لكل ما أمر به – من كانوا كذلك فلا خوف عليهم من عقاب ينزل بهم، ولا يحزنون على ما فاتهم في ماضيهم من شر، لأن الإيمان يجب ما قبله كما قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف… (38)} [الأنفال] فلا يأسون على ما فاتهم ويفرحون بما أتاهم “.زهرة التفاسير (1/ 254)
[2] قال أبو السعود:”{قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} أمرَهم بقتال أهلِ الكتابين إثرَ أمرِهم بقتال المشركين، والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلِّية ما في حيز الصلةِ للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين، فإن اليهودَ مُثَنّيةٌ والنصارى مُثلِّثةٌ، فهم بمعزل من أن يؤمنوا بالله سبحانه وباليوم الآخر فإن عِلمَهم بأحوال الآخرة كلا علمٍ، فإيمانُهم المبنيُّ عليه ليس بإيمان به {وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} أي ما ثبت تحريمُه بالوحي متلواً أو غيرَ متلوٍ. وقيل: المرادُ برسوله الرسولُ الذي يزعُمون اتباعَه أي يخالفون أصلَ دينهم المنسوخِ اعتقاداً وعملاً {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} الثابتَ الذي هو ناسخٌ لسائر الأديان وهو دينُ الإسلام وقيل: دين الله {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} من التوراة والإنجيل، فمن بيانيةٌ لا تبعيضيةٌ حتى يكونَ بعضُهم على خلاف ما نُعت”. إرشاد العقل السليم (4/ 58). قال ابن عطية:”ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله عز وجل من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذ تلقوها من غير طريقها، وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا: عزيز ابن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك، ولهم أيضاً في البعث آراء كشراء منازل الجنة من الرهبان، وقول اليهود في النار نكون فيها أياماً بعد ونحو ذلك، وأما قوله {لا يحرمون ما حرم الله ورسوله} فبين، ونص على مخالفتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قوله {ولا يدينون} فمعناه ولا يطيعون ويمتثلون، وأما قوله {من الذين أوتوا الكتاب} فنص في بني إسرائيل وفي الروم وأجمع الناس في ذلك، وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم.المحرر الوجيز (3 / 21)، قال البغوي:”فإن قيل: أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قيل: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين، فإنهم إذا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيمانا بالله (معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 335).قال الماتريدي: “”قيل: هم، وإن آمنوا في الظاهر بالله واليوم الآخر، فإنما يؤمنون بإله، له ولد، كما ذكره على إثره، وهو قوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)[التوبة: 30] فالإيمان بإله، له ولد ليس بإيمان بالله، فهم غير مؤمنين. (تأويلات أهل السنة(5/ 337).