سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الثانية والعشرون | الشيخ عبد الرحمن الخرسة

فضل الاعتكاف

 

          الحمد لله الكريم المنان الحمد لله الذي خصنا بشهر رمضان والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان: وبعد

          فإن النفوس تحتاج إلى راحة واستجمام من كفاح الحياة ومشاغلها وهمومها وكروبها، والناس تختلف نوازعهم ومشاربهم في وسائل الاستجمام، والكثير من البشر يعتبرون النزهة والسفر خير وسيلة ينفسون بها عن كدهم وكدحهم، ويسترجعون بها قواهم، والراشد الناصح يجد أن خير وسيلة يستجم بها ويعيش في رحابها هادئًا مطمئنًا هو ذكر الله : ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]، والسعادة التامة عنده تكون بالإيواء إلى بيوت الله  وإحيائها بالصلاة والذكر والاعتكاف، ففي رحاب بيوت الله يستلذ المؤمن بمتع لا نظير لها، ويخلد إلى راحة لا مثيل لها، ويخرج من كربه سالمًا منعمًا بالرضا والتسليم، يفصح عن ذلك المعصوم  قائلاً: «صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين درجة، ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة»

          وفي كنف الصلاة يأوي المرء إلى ركن شديد، يعصمه من الزلل، ويعينه على نوائب الدهر، ويهديه إلى سواء السبيل: ﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِين[البقرة: 153].

          وإذا كان المشي إلى الصلاة وانتظار الصلاة يرفع المرء إلى مقامات عالية ودرجات رفيعة، فإن المكوث في المساجد والاعتكاف فيها أيامًا وليالي يرقى بالعبد إلى درجة الفلاح، يقول ﷺ: «ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق، كل خندق أبعد ما بين الخافقين»..

          والاعتكاف بالمساجد ولزوم الطاعة فيها يسمو بالمرء إلى مصاف الملائكة المقربين الذين لا يفترون من عبادة الله ، والمعتكف بذكره لله يكون قريبًا من مولاه، ويحظى بالسعادة والهناء؛ أخرج مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «يقول الله : أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إليّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».

          ومع هذا القرب من الرب للعبد فإن مولانا يفرح من وصال عبده، فيتبشبش له، ويخلع رضاه عليه. أخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي  قال: «ما توطّن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم».

          ولزوم المساجد وحبس النفس على الطاعة في زمن الوصال وفي الأيام المباركة التي نحن نعيش في نسمات أيامها القادمة، تمنح المرء نفحات يعجز عن إدراكها وفضلها؛ يقول ﷺ: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»..

          ومن أجل هذا المغنم الزاخر كان الرحمة المهداة يحرص حرصًا شديدًا على إحياء ليالي رمضان ولزوم المسجد، ولا سيما في العشر الأواخر، وكان حرصه واجتهاده يفوق التصوير والتعبير، تصف ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»

          وقد لا يتسنى للمؤمن ولا يتيسر له هذا الاجتهاد المضاعف، أو قد تتقاعس الهمم عن ذلك، فإن الشارع لم يترك موجبًا وعذرًا في اغتنام الأيام المفردة من العشر الأواخر تداركًا للفضل ولحوقًا بالركب السائر إلى الخير، يقول «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».

 

          فمَنْ مِنَّا بعد هذا يا عباد الله لا يتشوق إلى هذا الجزاء، أو تتقاعس به الهمة عن إدراكه، إلا من كتبت عليه الغفلة واستجاب لهوى النفس.

 

          ولما كان الاعتكاف فضله عظيمًا، وضع الشارع الحكيم من الأحكام ما يحفظ المعتكف من التلف، ووضع له الضوابط التي تحرسه من الزلل؛ أخرج أبو داود بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة، إلا لما لا بد منه».

          وإذا كان الشارع يحتاط لهذه العبادة بهذه الضوابط والحصون، فيأمر باجتناب الفضائل المأمور بأدائها في سائر الأيام، فمن الغبن أن يقطع العبد ليلة في بيوت الله ساهرًا على كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، كلام لا يرفع درجة ولا يحط خطيئة.

          إن المرء إذا كان يخشى على نفسه من تضييع حسناته عند الاعتكاف، فإن الأحرى به أن يلزم المسجد في مكان لا يأتيه أحد يشغله عن مناجاة ربه، والوقوف على بابه بتضرع وتأدب ودعاء والتجاء، فإن العاقل يعلم أن السفر طويل، وأن الزاد قليل، والكيس من اغتنم هذه الفرصة وذاك الاعتكاف، فجنى الخير الكثير، فإن الله تكفّل لمن يلزم المسجد لطاعته بالجنة والنعيم، فعن رسول الله  قال: «المسجد بيت كل تقي، وتكفّل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة».

 

          فسارعوا أيها الإخوة والأخوات إلى مرضاة رب العالمين ولازموا الاعتكاف في بيوت الله عسى الله يتجلى علينا بالرحمة والمغفرة والعتق من النار إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين..