إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة الرابعة | د. محمد فايز عوض

رمضان هدية ربانية

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة، 183].

 

  • أوّلاً: نادانا الله تبارك وتعالى بأعظم رباط يربطنا به، وأَكْرَمِ صِلَة تجعلنا من أحبّائه. وهو رباط الإيمان، وصِلَة توحيده وإفراده بالعبادة والعبوديّة، ممّا يعني أن الصيام لا يصح إلاّ إذا كان الصائم على صفة الإيمان؛ فما يمارسه غير المؤمنين مما يُسَمُّونه “صيامًا” ليس صيامًا عند الله؛ لأنهم يفقدون الأساس الذي يقوم عليه بناء الصيام، وهو الإيمان.

       

  • ثانياً: بَيَّن لنا غاية فريضة الصيام، فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي إن أداء هذه الفريضة يورث في المُؤَدِّي “التقوى” وهي بالإيجاز: أن يستشعر المرء عظمةَ الله تعالى، وأنه معه أينما كان، يرى كلَّ ما تصنع يداه، وتمشى إليه رجلاه، وتنظر إليه عيناه، حتى إنّه يعلم ما تُحدِّث به نفسُه، ويختلج به قلبُه، ويُفَكِّر فيه رأسُه، ويُحِيْطُ بكل حركاته وسكناته وجميع تصرُّفاته الصغيرة والكبيرة، والدقيقة والجليلة.

    فالصِّيامُ مفتاحُ التقوى، والتقوى رأسُ صحَّة كلِّ ما يقوم به المسلمُ من الأعمال المفروضة أو النافلة؛ فكان الصيامُ أهمّ العبادات المفروضة؛ من هنا كان فضلُه كبيرًا، وأجره عظيمًا؛
    فقال ﷺ: «ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائمُ حتى يفطر؛ والإمامُ العادل؛ ودعوةُ المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبوابَ السماء، ويقول الربّ: وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين». (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وحَسَّنه؛ وابنُ حِبّان في صحيحه).

    وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله ﷺ: «قال الله عزَّ وجلَّ: كلُّ عمل ابن آدم له، إلاّ الصوم؛ فإنّه لي وأنا أجزي به. والصيامُ جُنَّة؛ فإذا كان صومُ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب. فإن سَابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم؛ والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فَرِحَ بفطره وإذا لقي ربّه فَرِح بصومه». (رواه البخاري ومسلمٌ).
    وفي رواية للبخاريّ: «يترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي. الصيامُ لي وأنا أجزي به. والحسنةُ بعشر أمثالها».

    وهذا الحديثُ عظيم في باب التأكيد على فضائل الصوم؛ لأنّه صريح في العظمة التي تخصّ الصومَ ولا تُوْجَد في غيره من العبادات رغم أهميّة كل منها. 

       وقال الإمام النووي رحمه الله: “اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى؛
فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يَعْبُدْ أحدٌ غيرَ الله تعالى به؛ فلم يُعَظِّم الكفار في عصر من الأعصار معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يُعَظِّمُونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. 

وقيل: لأن الصوم بعيد عن الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة. 

وقيل: إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى؛ فتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة، وإن كانت صفات الله تعالى لايشبهها شيء. 

وقيل معناه: أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه أو تضعيف حسناته. وغيرُه من العبادات أظهر سبحانه بعضَ مخلوقاته على مقدار ثوابها. 

وفي هذا الحديث بيان عظم فضل الصوم والحث عليه. 

وقوله تعالى: (وأنا أجزي به) بيان لعظم فضله، وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولّى بنفسه الجزاءَ، اقتضى عظم قدر الجزاء، وسعة العطاء”  شرح صحيح مسلم للنووي،


           وفي الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي قال: «ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: الْصَومُ جُنَّةٌ، والصدقةُ تُطْفِئ الخطيئةَ، كما يُطْفِئ الماءُ النارَ» (رواه الترمذي، وصَحَّحَه).

والجُنَّة: أي الوقاية من الوقوع في المعاصي أو الوقاية من النار، وهي فضيلة كبيرة تخصّ الصومَ؛ لأنّه مَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ. والصيامُ يعين على هذه الغاية الكبرى والمقصد الأسمى الذي يتمنّاه كلُّ مسلم ويسعى أن يفوز به؛ لأنّ العملَ بالدين، والإيمانَ به تعالى، واتباعَ أوامره ونواهيه، وإتيانَ ما أمره به من أحكام، إنما الغرضُ منه النجاةُ من النار والفوزُ بالجنة.

          وأكّد على فضيلة الصوم هذه في حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي ﷺ: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلاّ باعد الله بذلك اليوم وجهَه عن النار سبعين خريفًا».

          وجاء التأكيد على هذا المعنى فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه»

 

         وأما شهر رمضان الذي فرض الله علينا صيامَه، فهو شهر فضيل كريم أشاد بذكره ربنا الله عزّ وجل في كتابه العظيم، إذ قال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ [البقرة، 185].

         وفي حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي  قال: «الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان، مُكَفِّرات ما بينهنّ، إذا اجْتُنِبَت الكَبَائِرُ» (رواه مسلم) .

         وعن أبي مسعود الغفاري رضي الله عنه قال: «سمعتُ رسولَ الله ﷺ ذاتَ يوم وأهلّ رمضان، فقال: لو يعلم العِبَادُ ما رمضان؟ لتمنّت أمتي أن تكون السنةُ كلُّها رمضانَ» (رواه ابن خزيمة في صحيحه؛ والبيهقي من طريقه).

الحقُّ أن رمضان جعله الله للمؤمن موسمًا للخيرات، وفرصةً ذهبيَّةً لتطهير نفسه من جميع الذنوب والآثام التي يكون قد ارتكبها خلال السنة في غفلة منه أو عمد بتحريض من الشيطان، أو ضعف في النفس، فكان من رحمته تعالى أنه جَعَلَ هذا الشهر فرصةَ دورةٍ تدريبيَّةٍ يلتحق بها، فيتجرّد فيها من جديد مُنَزَّهًا من كلّ ما صَدَرَ منه من الأخطاء والمعاصي التي يتعرّض لها البشر لا مَحَالَة.

وهناك أحاديث كثيرة تبين فضل الصيام وفضيلة رمضان، وتدعو لاغتنام فرصة رمضان إذا أدركها أحد منّا؛ فلا توجد عبادة من العبادات المفروضة أو النافلة تبلغ درجة الصيام في إكساب العبد الخيرَ الجمَّ الذي يجعله من عباده الصالحين.

من هنا عندما طَلَبَ بعضُ الصحابة من النبيّ أن يوصيه بعمل فقال له  أن يأخذ بالصوم، وأعاد عليه الطلب ثلاثًا، فقال ثلاثاً أن يأخذ بالصوم:

         «عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! مُرْنِي بعمل. قال: عليك بالصوم؛ فإنّه لا عدلَ له. قلت: يا رسولَ الله! مُرْنِي بعمل. قال: عليك بالصوم؛ فإنه لاعدلَ له. قلت: يا رسول الله! مُرْنِي بعمل. قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له». (رواه النسائي؛ وابن خزيمة في صحيحه هكذا بالتكرار وبدونه؛ والحاكم وصَحَّحَه).

 

         وفي رواية للنسائي: «قال: أتيتُ رسولَ الله، فقلتُ: يا رسول الله! مُرْنِي بأمر ينفعني اللهُ به. قال: عليك بالصيام؛ فإنّه لا مثلَ له».

         ورواه ابنُ حبّان في صحيحه في حديث: قال: «قلتُ: يا رسولَ الله! دُلَّني على عمل أدخل به الجنَّةَ. قال: عليك بالصوم؛ فإنّه لا مثلَ له. قال: فكان أبو أمَامة لا يُرَىٰ في بيته الدخانُ نهارًا إلاّ إذا نزل بهم ضيفٌ»