إذا كان أبو بكر الصديق قد جمع القرآن فما هو العمل الذي قام به عثمان بن عفان حين جمع القرآن؟

 يجيب عن السؤال الشيخ أنس الموسى

السؤال

إذا كان أبو بكر الصديق قد جمع القرآن فما هو العمل الذي قام به عثمان بن عفان حين جمع القرآن؟

الجواب


                                            بسم الله الرحمن الرحيم
لا بد قبل الإجابة عن السؤال أن نمرَّ سريعاً على مراحل جمع القرآن في السطور؛ فالمصحف مرَّ بمراحل تكاملت حتى جُمع بين دفتين جَمْعًا محوطاً بأشد أنواع العناية والحفظ إلى يومنا هذا.
ويمكن اختصار هذه المراحل بثلاث مراحل:
  • المرحلة الأولى: كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

 حيث كَتَبَ الصحابةُ القرآن كله في عهده صلى الله عليه وسلم بأمره وإشرافه؛ فكلَّما نزل عليه صلى الله عليه وسلم شيء من القرآن دعا الكتَّاب فأملاه عليهم، فكتبوه على ما يجدونه من أدوات الكتابة وقتئذ، مثل الرّقاع، واللّخاف (الحجارة البيضاء الرقيقة)، والأكتاف، والعُسُب ( جمع عَسيب وهو جريد النخل).
  • المرحلة الثانية: وكانت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 وسبب جمع القرآن الذي قام به الصديق؛ أن القتل كثُرَ في صفوف قرَّاء الصحابة  في حروب الردة؛ مما دعا لأخذ التدابير للمستقبل الذي سيواجه فيه المسلمون الدولتين الأعظم في العالم آنذاك.
ويلخِّصُ عملَ الصديق، ما رواه البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وكان أحد كَتبة الوحي، قال: ” ‌أرسل ‌إليَّ ‌أبو ‌بكر ‌مقتلَ ‌أَهْلِ ‌الْيَمَامَةِ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثيرٌ من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت، وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ ما كان أثقل علي مما أمرني به مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسُب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم}. إلى آخرهما. وكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عمر “. (1)  قوله: “لم أجدها مع أحد غيره”: أي مكتوبة، ولم يُرد محفوظة؛ فإنّ زيدًا نفسه كان ممّن جَمع القرآن حفظاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجَمَعَهُ طائفةٌ من الصحابة كانوا أحياء يومئذ.
أي إن زيد بن ثابت طلبَ القرآن متفرقاً ليُقابلَهُ ويدقق نسخته بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن؛ ليشترك جميع الصحابة في عِلم ما جُمع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحدٌ عنده منه شيء، ولا يرتاب أحدٌ فيما يُودع المصحف، ولا يشكّوا في أنه جُمِعَ عن ملأٍ منهم. ومِنْ ثمَّ أُودعت نسخة المصحف لدى الخليفة لتكون إماماً تواجه الأمة به ما قد يحدث في المستقبل، وحينها لم يعد الأمر موكولاً إلى النسخ التي بين أيدي كتّاب الوحي، أو إلى حفظ الحفّاظ وحدهم.
ويلخِّصُ الحارث بن أسد المحاسبي في كتابه “فهم السنن” العمل الذي قام به الصديق فقال : «كتابة القرآن ليست محدَثةً، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقاً في الرقاع والأكتاف والعُسُب، وإنما أمر الصدّيق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراقٍ وُجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامعٌ، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء“. (2)
  • المرحلة الثالثة: وهي مرحلة ‌‌جمع القرآن بنَسْخِ المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه:

 فقد استجد في عهد عثمان رضي الله عنه ما يوجب نشرَ المصحف – الذي جُمع في عهد الصديق رضي الله عنه- وتعميمَه على الآفاق ليحقق الغاية التي جُمع لأجلها واستغرق تلك الجهود والأوقات.
ويلخِّصُ سببَ جمع عثمانَ للقرآن، ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: ” أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، ‌وَكَانَ ‌يُغَازِي ‌أَهْلَ ‌الشَّأْمِ ‌فِي ‌فَتْحِ ‌إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ، اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ”. (3)
بينت هذه الرواية العمل الذي قام به عثمان بن عفان رضي الله وأن السبب الذي دفعه للقيام بعمله هو اختلاف الناس في وجوه قراءة القرآن، حتى قرأوه بلغاتهم، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي عثمان من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحفٍ واحدٍ مرتّباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش … ».
فجمعُ عثمان كان للمحافظة على نص القرآن أن يدخل فيه ما ليس منه، أو أن يتعرض لأي تحريف، واعتماد القراءات المتعددة المتواترة التي يمكن أن يُقرأ بها القرآن، وبذلك قضى عثمان رضي الله عنه على الخصام والفتنة بين المسلمين بسبب القراءات، لأن الجميع علموا شرعية ما يُقرأ به القرآن، لاعتماده على الأصل المُجمع عليه من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهو المصحف المجموع في عهد الصديق رضي الله تعالى عنه.
وأخيراً يمكن إجمال الفروق بين عمل عثمان وعمل أبي بكر في جمع القرآن بما يأتي:
عمل أبي بكر الصديق: لم يكن المصحف في عهد الصديق مجموعاً في نسخة واحدة موثقة، بل كان ما وجد من نسخ المصحف عند كتّاب الوحي على مسؤوليتهم الخاصة؛ فجَمعَ الصّدّيق القرآن من السّطور والصّدور على الصّفة الّتي أخذها النّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكتبها بأمره كتّاب الوحي، فصار كل القرآن محفوظاً في موضعٍ واحد بما فيه الأحرف السّبعة، في نسخة معتمدة يشترك فيها جميع الصحابة خشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، كما أن جَمْعَ الصديق كان بإشارة من عمر بن الخطاب، حيث قال له: «إنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن».
عمل عثمان بن عفان: فكان الدّاعي له الخوف على الأمّة من الافتتان في دينها بسبب اختلاف الحروف الّتي يُقرأ بها القرآن، فقام بكتابة مصحفٍ يكون للنّاس إمامًا، لا يُختلف في شيءٍ من حروفه، يُعصمون به من الضّلالة، وجَعل عثمانُ رضي الله عنه إمامَه في ذلك المصحف الذي جُمع في عهد الصّدّيق، وأمر الكتّاب أن يَصيروا فيما اختلفوا فيه عند الكتابة إلى لغة قريش فتكون فصلاً بينهم، ولتحقيق الهدف الذي جَمع عثمان لأجله القرآن أمر بحرق ما سوى النسخة الأخيرة، ثم وزعت النسخ التي جمعها على الأمصار، وأرسل عثمان مع كل نسخة معلِّماً يُعلِّم طريقة الأداء.
وبذلك حُفظ القرآن مجموعاً بين دفتين، وأجمعت الأمة على ما بين الدفتين وأنه كلام الله تعالى دون زيادة ولا نقصان، وتحقق وعد الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ ‌لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]                                                                  والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(4)


(1):صحيح البخاري (4402).
(2):ينظر البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/238)؛ الإتقان في علوم القرآن (1/206).
(3):صحيح البخاري (4702).
(4): ينظر لكل ما سبق: البرهان في علوم القرآن (1/235)؛ الإتقان في علوم القرآن (1/202)؛ مناهل العرفان (1/249)؛ علوم القرآن الكريم د. عتر ص169؛ المقدمات الأساسية في علوم القرآن ص100.