هل صحيح أن حقوق الله تعالى أخفّ على المسلم من حقوق العباد؟
يجيب عن السؤال الشيخ محمد فايز عوض
السؤال
هل صحيح أن حقوق الله تعالى أخفّ على المسلم من حقوق العباد؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين .
فقد اتفقت كلمة الفقهاء على قاعدة فقهية و هي ( حقوق الله مبنية على المسامحة و حقوق العباد مبنية على المشاحة )
لكن لا بد من تحديد المراد بحق الله و حق العباد فأقول و بالله التوفيق :
لقد قسم الأصوليون و الفقهاء الأحكام التكليفية الشرعية إلى :
1. حقوق خالصة لله تعالى، كالإيمان و التوحيد والعبادات.
2. حقوق خالصة للعباد كالديون، وبدل المتلف. وأثمان الأشياء
3. حقوق مشتركة بين الله تعالى والعبد، وحق الله غالب، كحد القذف عند الحنفية.
4. حقوق مشتركة بين الله تعالى والعبد، وحق العبد غالب كالقصاص.
وما يميز حق الله تعالى أنه ليس للعبد إسقاطه كحد الزنا والسرقة و كفارة القتل الخطأ .
وأما حق العبد: فللعبد إسقاطه كالقصاص والدية اللأمور المادية كالدين و الأجرة المستحقة .
و الحقوق المحضة الخالصة لله تعالى معروفة واضحة، وكذلك الحقوق الخالصة للعبد ، و قد وقع خلاف بين الفقهاء في بعض الحقوق هل يغلب فيها حق الله أم حق العبد ؟
يقول الإمام القرافي في كتابه الفروق : ((الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَاعِدَةِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ)
فَحَقُّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ وَالتَّكَالِيفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ، وَحَقِّ الْعِبَادِ فَقَطْ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ ، وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ؟
وَنَعْنِي بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ وَإِلَّا فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعَبْدِ وَلَا يُوجَدُ حَقُّ الْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْإِسْقَاطِ فَكُلُّ مَا لِلْعَبْدِ إسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي نَعْنِي بِهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي نَعْنِي بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ))([1])
قَالَ فَخْرُ الإِسْلامِ الْبَزْدَوِيُّ ((أَمَّا الأَحْكَامُ فَأَنْوَاعٌ : الأَوَّلُ : حُقُوقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصَةً . وَالثَّانِي : حُقُوقُ الْعِبَادِ خَالِصَةً . وَالثَّالِثُ : مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ . وَالرَّابِعُ : مَا اجْتَمَعَا مَعًا وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ ))([2]).
و بناء على هذا التقسيم ذكر الفقهاء قاعدة فقهية كان لها كبير الأثر في التطبيقات الفقهية و هي أن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحة و قد ذكر هذه القاعدة الزركشي في قواعده([3])،
ويستفاد معناها من مجموع قاعدتي (الضرورات تبيح المحظورات) ، و (الاضطرار لا يبطل حق الغير) حيث يتبين أن إباحة المحظور في حال الاضطرار مطلقا إنما هو فيما يتعلق بحق الله سبحانه، أما فيما يتعلق بحق الآدمي فإنه وإن أبيح في حال الضرورة إلا أنه مشروط بضمانه([4])
يستدل لهذه القاعدة بعدة أمور منها:
أولا: وقوع الرخص والتخفيفات في حقوق الله تعالى كقصر الصلاة والجمع بين الصلاتين في السفر، وكالتيمم عند عدم الماء، وكتأخير الصيام للمسافر في شهر رمضان إلى أيام أخر … ، وغير ذلك كثير.
ثانيا: حديث: «ادرؤا الحدود بالشبهات »([5])وما في معناه من الأحاديث الدالة على دفع الحدود بالشبهات المحتملة.
ثالثا: ما يدل بعمومه على رفع الحرج كقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲ﴾ [الحج ٧٨] وكقوله تعالى: ﴿ یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡر َ﴾ [البقرة ١٨٥]
رابعا: أن العلماء قد ذكروا للتوبة – فيما يتعلق بحقوق الله تعالى – ثلاثة شروط، وهي: الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العود، والندم على ما مضى. وزادوا – فيما يتعلق بحقوق العباد – شرطا رابعا وهو أن يؤدي ذلك الحق إلى صاحبه، أو يتحلله منه([6]).
جاء في روضة الطالبين للنووي رحمه الله :
(وإن تعلق بها – أي: بالمعصية – حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس: وجب مع ذلك –أي: مع التوبة – تبرئة الذمة عنه بأن يؤدي الزكاة ويرد أموال الناس إن بقيت ويغرم بدلها إن لم تبق أو يستحل المستحق فيبرئه)([7]).
و بناء على ذلك ذكر الفقهاء مسائل فقهية مستندها هذه القاعدة العامة فمنها مثلًا :
ما إذا اجتمعت في تركة الميت حقوق مالية متعلقة بذمته لله تعالى، كالزكاة، وحقوق متعلقة بذمته للآدميين كالديون ولم تف التركة بها جميعا
فإن المالكية يرون تقديم دين الآدمي على وفق هذه القاعدة،
ويرى الحنفية أن حقوق الله تعالى المتعلقة بالذمة تسقط بموت من وجبت في ذمته إلا إذا أوصى بإخراجها، أو تبرع غيره بأدائها عنه، ومعنى سقوطها عنه: عدم لزومها في ماله بعد موته، مع بقاء المؤاخذة بها إذا كان مفرطا.
وللشافعية في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها تقديم حقوق الله، والثاني تقديم حقوق المخلوقين، والثالث: تساويهما، ورجح النووي الأول منها.
وذهب الحنابلة إلى تساوي الحقين فإذا اجتمعت في التركة ديون الله وديون الآدميين ولم تف التركة بها فإنهم يتحاصصون على نسبة ديونهم.
و منها أيضا :(إذا اجتمع القصاص وحد السرقة فإن القصاص مقدَّم؛ لأنه «حق من حقوق الناس»، وحد السرقة «حق من حقوق الله». كذلك إذا أقر الشخص بسرقة شيء ثم رجع عن إقراره فإنه لا يقام عليه حد السرقة، ولكنه يضمن ما سرق؛ لأن ذلك «حق الناس»، ولا يجوز الرجوع عن الإقرار في حق الناس، ولكنه يجوز الرجوع عن الإقرار في حق الله)([8]).
فالواجب على كل مسلم إن كانَ عنده مظالمُ لغيره، أو حقوقٌ فعليه أن يتحللَ منها اليومَ قبلَ العرضِ على الحكَمِ العدل، الذي لا يَظلمُ الناسُ شيئاً، ولكنَّ الناسَ أنفسهم يظلمُون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»([9])
و ختاما فيجدر بالمسلم عدم التهاون بأي حق وجب عليه سواء كان لله أم للعباد إذ الكل في الحقيقة راجع لحق الله تعالى لأنه الذي أمرنا بهذه الأوامر الواضحة البينة ، و ليلقى المسلم ربه وليس في ذمته ظلامة لأحد يوم لا ينفع مال و لا بنون
نسألُ الله – تعالى -العفو والعافية، وأن يُعيذنا من حالِ الخاسرين، وأن يُجنبنا أسبابَ الظُلمِ، وأن يُعيذنا من مصيرِ الظالمين. و الحمد لله رب العالمين
([1]) الفروق للقرافي 1/342
([2]) كشف الأسرار للبزدوي 4 / 134 ، 135 .
([3]) المنثور في القواعد للزركشي ٢/٥٩
([4]) القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير لعبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف 1/267
([5]) أخرجه الحاكم (8255) والترمذي (1424) والبيهقي (17154) وابن أبي شيبة (29094)
([6]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٨/١٩٩-٢٠٠، وشرح صحيح مسلم للنووي ١٧/٢٥.
([7]) روضة الطالبين للنووي (۱۱/۲٤۷,۲٤٦) :
([8]) الأَصْلُ لأبي عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني ص 241
([9]) أخرجه البخاري (2449)
[الشيخ] محمد فايز عوض
هو الشيخ الدكتور محمد فايز عوض من مواليد دمشق – سوريا 1965
درس العلوم الشرعية في مساجد دمشق و معاهدها
خريج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1985
حائز على شهادة الدكتوراة في الدراسات الإسلامية من الجامعة الإسلامية بهاولبور في باكستان.
له الخبرة الواسعة في وضع المناهج وتطوير التدريس للعديد من الدورات العلمية وإقامة دورات مكثفة.
درّس الفقه وأصوله وعلوم القرآن وتاريخ التشريع والفرائض وغيرها في عدة معاهد وجامعات مثل: معهد الفرقان للعلوم الشرعية، ومجمع الفتح الإسلامي في دمشق،
مدرس في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية في اسطنول للعديد من المواد العربية و الشرعية
مدرس في عدد من المعاهد الشرعية في اسطنبول
عضو رابطة علماء الشام، عضو مؤسسة زيد بن ثابت الأهلية، عضو رابطة العلماء السوريين، عضو المجلس العلمي لمركز الإيمان لتعليم السنة والقرآن..
من مشايخه الذين قرأ عليهم:
والده الشيخ محمد محيي الدين عوض، والشيح محي الدين الكردي، والشيخ محمد كريّم راجح، والشيخ أسامة الرفاعي، والشيخ أيمن سويد، و الشيخ أحمد القلاش ، و الشيخ محمد عوامة ، والشيخ ممدوح جنيد.