فاعلية الإنسان: قراءة قرآنية معاصرة لبيان دور الإنسان يطرحها الدكتور عصام عيدو

الشيخ الدكتور عصام عيدو أستاذ الدراسات العربية والإسلامية والمتخصص في علوم الحديث، يقدم أطروحة مهمة في إدراك فاعلية الإنسان في الحياة وبيان مهامه التي ذكرت في القرآن الكريم، وذلك من خلال آيتي سورة النحل، الآية رقم (٧٥) والآية رقم (٧٦)، وهو يحاول أن يبين أهمية فاعلية الإنسان من خلال معرفته لقيمة العمل التي تتضح في النحل، ويبين أن هناك ربطا بين المثالين في الآيتين وبين سلوك النحل في صنع العسل وقضية التوحيد ومفهوم العبودية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

“ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء”
فاعلية الإنسان

 

أورد الله تعالى في سورة النحل – السورة المكية – مثالين متتاليين فيهما عدد من الثنائيات المتقابلة: {رَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُونَ ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: ٧٥ – ٧٦]. هذان المثالان وردا عقب ذكر النحل، الكلمة التي سميت السورة باسمها، وفوق ذلك فإن موضوعات هذه السورة تدور بمجملها حول رمزية النحل التي تقوم على الفاعلية وقيمة العمل والكسب والسعي والعمران. فجوهر الوحي الإلهي الملقى إلى النحل يتلخص في هذا الأمر الإلهي {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ} [النحل: ٦٩]، سلوكاً يعكس دأباً وسعياً دون استنكاف ودون ملل في سبيل صنع شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس وفيه عبرة لقوم يتفكرون ليس في الشراب فحسب بل في هذا السعي الدؤوب لهذا النحل.

لا يمكن قراءة هذين المثالين اللذين وردا عقب ذكر النحل بمعزل عن هذه الصورة المتحركة واللوحة التمثيلية لسلوك النحل في صنع العسل. في هذا السياق يمكن فهم هذه الثنائيات المتقابلة التي وردت في هذين المثالين: في المثال الأول عبد مملوك، لا يقدر على شيء في مقابل من رزقناه منا رزقاً حسناً، ينفق منه سراً وجهراً. في المثال الثاني: أبكم، لا يقدر على شيء، كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأتِ بخير في مقابل من يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.

بمراجعة سريعة لمجمل التفاسير التي فسرت هذين المثالين نجد أن قضية التوحيد كانت القضية الجوهرية في ذكر هذين المثالين، فبما أن سورة النحل سورة نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام في مكة، وكان القرآن المكي يعنى بطبيعة الحال وبشكل أساسي بقضية التوحيد والمعاد، فإنه يمكننا فهم السبب الذي دفع بالمفسرين – وبناء على بعض أسباب النزول – للذهاب إلى ربط هذين المثالين بقضية المقارنة بين الكفر والإيمان أو بين عبدة الأصنام والموحدين أو بين الصنم عديم القدرة وبين الله القادر أو بين الكافر الكسول والمؤمن الفاعل أو بين شخص معين ورد سبب النزول باسمه وشخص آخر مقابل له. أياً يكن، ومن خلال قراءة سياقية لهذين المثالين في ضوء رمزية النحل وفاعليتها ندرك وبشكل ملحوظ العلاقة القوية والجوهرية التي أراد النص القرآني أن يشير إليها هنا، وهي المقارنة بين الفاعلية الناتجة عن الخير والعطالة أو البطالة أو العدمية الناتجة عن التثاقل أو الكسل.

بتحليل هذين المثالين، نجد في المثال الأول صورة تمثيلية لعبد مقيد مسلوب الإرادة والأهلية، ليس لديه القدرة والفاعلية للعمل. في هذه الصورة التمثيلية لا يمكن بحال أن يستحضر الذهن صورة العبد الرقيق الذي يملك سيده حق رقبته. الصورة تتكلم عن عبدٍ خضعت إرادته وعقله لجهةٍ ما فأصبح مملوكاً مسلوباً لها، لا يقدر على عمل شيء إلا في نطاقها. هذه الصورة ينبغي أن تستحضر في مقابل الصورة الثانية لعبدٍ آخر لا يرى فيما يملك إلا أنه رزق من الله ساقه إليه. وهنا لا بد أن نعود قليلاً إلى الوراء لندرك قضية مركزية مهمة أكد عليها النص القرآني {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: ٧١]؛ في هذا السياق، نحن أمام عبدٍ حرٍ من نزعاته النفسانية التي تنطوي على الحرص والشهوة والطمع والغضب والحسد ولا يرى في أرزاق غيره إلا عطايا من ربه الكريم، ولذلك فإن مآل هذا الرزق لدى هذا العبد هو الإنفاق منه سراً وجهراً ليقينه التام بأن الأمر مقدر، وهنا تتحرر طاقة الإنسان وفاعليته وتنطلق من عقال الاضطرابات النفسانية المقيدة والتي تجعل الإنسان عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء. بالإضافة إلى عامل الرزق هذا لابد أن ندرك أن هناك عامل آخر أكد عليه النص القرآني، وهو نص لاحق جاء عقب هذين المثالين: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: ٧٨]؛ هنا يكتمل المشهد التصويري حيث يؤسس النص القرآني لمفهوم المساواة بين جميع الناس ذكوراً وإناثاً. فالكل خرج إلى الوجود لا يعلم شيئاً. ولكن قابلية العلم موجودة وهي متحصلة عبر السمع والأبصار والأفئدة. والإنسان باختياره إما أن يجعل هذه المنافذ (السمع والأبصار والأفئدة) مقيدة لا تقدر على شيء مملوكة، أو يجعلها فاعلة حرة منطلقة من عقالها تنفق سراً وجهراً. والكل دون استثناء له ميزة التسخير التي ذكرها الله تعالى عقب ذلك عندما قال في جملة من الآيات: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ … فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: ٧۹ – ٨٢].

في المثال الثاني، تظهر قضية الفاعلية بشكل واضح أيضاً عبر هذه الثنائيات المتقابلة “أبكم” “لا يقدر” “كَلٌّ”. صفة انعدام القدرة تكررت مرتين في المثالين، وهي جوهرية في الإشارة إلى انعدام الفاعلية والتثاقل والعدمية والكسل والانحباس. لكن في هذا المثال هناك صفتان جديدتان مثيرتان من حيث الاستخدام: الأولى: “أبكم” وهي صفة وردت في القرآن مع صفات أخرى كالعمى والصمم في سياق وصف الكافرين، ولكنها وردت هنا فريدة وحيدة دون وصف العمى والصمم ولأول مرة في القرآن وبسياق الذم لشخص لا يتكلم. ومن المعلوم أن هناك نصوص عديدة في التاريخ الإسلامي تذم الكلام وتمدح الصمت ولكن السياق هنا يذم الأبكم مقابل مدح ذلك الرجل الذي يأمر بالعدل. في هذا التقابل يمكن فهم تلك الفاعلية وتلك العدمية. الفاعلية في تغيير المجتمع، في نصرة المظلوم، في الأخذ على يد الظالم، في السعي، في الكسب، في العمران. الأبكم هنا ليست حالة سكوت فقط، البُكم هنا حالة عدمية لا تقوم بالتغيير، ترى السوء في المجتمعات وتغض البصر. هنا يمكن فهم ذلك التقابل الثاني بين “الكَلُّ على مولاه” ذلك الرجل الذي لا يمكنه أن يتكلم أو يتحرك إلا بما يأمره سيده، فمعروفه معروف سيده ومنكره منكر سيده. فهو عاطل عن رؤية الخير بنفسه، عاجز عن إدراك المعروف والمنكر ومعنى العدل دون تحديد سيده، في مقابل ذلك الرجل مَن “هو على صراط مستقيم”، فوصف الآخر بأنه على صراط هو وصف يعبر عن فاعلية هذا الآخر وعمله، وكلمة “على” تحمل هنا مضموناً مليئاً بالحركة. فهو متمكن من هذا الصراط لا أحد يملي عليه، فاعل فيه، سيد نفسه، حرٌ في إرادته وقدرته، منطلق في كسبه وعمله، آمر بالعدل، آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر.