سلسلة شعب إيمانية | من صور توقير الصحابة لرسول الله ﷺ | المقالة الثانية والثلاثون | د. محمد فايز عوض
﷽
من صور توقير الصحابة لرسول الله ﷺ
♦ المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
من المعلوم أن حب النبي محمد ﷺ قد بلغ في قلوب أصحابه مبلغه، حتى بلغ حبه في قلوبهم أعظم من حبهم لأنفسهم وأولادهم والناس أجمعين، ولذلك فقد ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الدفاع عنه ،ونشر دعوته ورسالته ، لأنهم يعلمون أن حبه من طاعة الله ،فمن أحب الله أحب رسوله ، ومن أتبع رسوله فقد أحب الله قال تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران : 31].
لقد أحبوه لأنهم يعلمون أنه كان سببا في هدايتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، ومن الكفر إلى الإيمان.
♦ حب الرسول ﷺ عند أصحابه
يقول ابن رجب رحمه الله ( لولا رسالة محمد ﷺ لكان أهل العراق مجوسًا يعبدون النار ،ولكان أهل الشام و مصر نصارى يعبدون عيسى ولكان أهل جزيرة العرب كفارًا يعبدون الأصنام ، فسيدنا محمد ﷺ هو الذي كان سببًا في نجاتنا من النار ،وكان سببًا في سجودنا للملك الديان كما قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107].
وحب الرسول ﷺ عند أصحابه لم يكن حبًا باللسان، أو حبًا بالأقوال دون الأفعال ولكنه كان حبًا بالقلب يصدقه القول والعمل، حبًا تحول إلى واقع في حياتهم ،فإذا دعاهم للجهاد تسابقوا إليه ،وإذا أمرهم بأمر أطاعوه ، وإذا نهاهم عن شيء تركوه.
ومن أبلغ ما قيل في وصف هذا التعظيم الناشئ عن الحب ما قاله عروة بن مسعود فقد ورد في صحيح البخاري وغيره أن عروة بن مسعود حين وجهته قريش إلى رسول الله ﷺ، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وَضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقًا، ولا ينتخم نخامةً إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
فلما رجع إلى قريش قال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ﷺ محمدًا، والله إن انتخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له…” البخاري (2731).
فهذه صورة لما كان عليه حال الصحابة وما كان من شأنهم في تعظيم النبي ﷺ وتوقيره ومراعاة أموره والتبرك بآثاره.
ولما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات : 3].
ويتجسد هذا الحب أيضا في موقف المرأة الصحابية الأنصارية من بني دينار التي قُتلَ زوجها وأخوها وأبوها في معركة أحد، فلما نعوا لها، قالت: ما فعل رسول الله ﷺ ؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟ فأشاروا إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (تريد صغيرة). ابن هشام في السيرة: ٢/ ٩٩ والبيهقي في الدلائل: ٣/ ٣٠٢، والطبري في تاريخه: ٢/ ٥٣٣
جاء في صحيح البخاري (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ – رضى الله عنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – ﷺ– فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ » البخاري (6169).
وفي سنن الترمذي عنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الصَّلاَةِ فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ ؟ ». فَقَالَ الرَّجُلُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « مَا أَعْدَدْتَ لَهَا » قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ إِلاَّ أَنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ « الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ». فَمَا رَأَيْتُ فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحَهُمْ بِهَذَا، الترمذي (2385).
وتروي كتب السيرة قصة زيد بن الدثنة رضي الله عنه لما أخرجه المشركون إلى التنعيم ليقتلوه، وسأله المشركون : ننشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنا جالس في أهلي، فضحكوا. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب .أصحاب محمد محمدا )السيرة النبوية لابن هشام ٣/ ٦٦٩
وفي صحيح مسلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ عِنْدَنَا فَعَرِقَ وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ فَجَعَلَتْ تَسْلُتُ الْعَرَقَ فِيهَا فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّﷺ فَقَالَ « يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِى تَصْنَعِينَ ».قَالَتْ هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ.) مسلم (2331).
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: “وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه” مسلم (121).
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قام رسول الله ﷺ يصلي من الليل، قال: فقمت وتوضأت أصلي خلفه فأخذ بيده فجعلني حذاءه – بموازاته وجانبه ومحاذاته-. فخنست- تأخرت- فقمت خلفه فأخذ بيدي فجعلني حذاءه -بجانبه – فخنست فقمت خلفه، فانصرف رسول الله إليَّ فقال: ” مالي كلما جعلتك حذائي خنست؟”
قال: فقلت له: لا ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله. قال: فدعا الله أن يزيدني فهما وعلما”. أحمد (3118) و الحاكم (6335).
♦ حب الخلق للرسول ﷺ
ولم يكن الصحابة فحسب هم الذين أحبوا رسول الله ﷺ هذا الحب، بل أحبه كل شيء، فقد أحبه الجذع الذي كان يخطب عليه ،كما في صحيح البخاري (عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رضى الله عنهما – يَقُولُ كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ فَكَانَ النَّبِيُّ – ﷺ– إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ ، وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ) البخاري (3585).
وأحبه جبل أحد الذي كان يرتقي فوقه كما في صحيح البخاري (عَنْ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» البخاري (4422).
فإذا كانت الجمادات أحبت رسول الله ﷺ، فمن الأولى أن نحبه ﷺ، ونتمنى رؤيته، ونشتاق إلى لقائه، كما في صحيح مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِى لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ». مسلم (2832).
وكما أننا نشتاق إلى رؤيته ﷺ فهو أيضا يشتاق إلينا ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا ». قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ». فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ» مسلم (249).
نسأل الله أن يكرمنا بمحبته المحبة الصادقة لنكون معه إنه سميع قريب مجيب.